استمع إلى الملخص
- أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية أن أكثر من 70% من المستشفيات والمراكز الصحية خرجت عن الخدمة، مما أدى إلى تدهور الوضع الصحي بشكل غير مسبوق، حيث تعاني المستشفيات المتبقية من ضغط كبير ونقص في الموارد.
- يحذر المسؤولون من انهيار كامل للمنظومة الصحية، مع نقص حاد في الأدوية والمستلزمات والوقود، مما يهدد بتوقف الخدمات الحيوية، وتتفاقم الأزمة الإنسانية والصحية، مما يتطلب تدخلاً عاجلاً.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة المحاصر، لم يوفّر الاحتلال وسيلة إلا واستهدف المنظومة الصحية فيه من خلالها؛ فقصف المستشفيات وحاصرها وعطّلها ومنع إدخال المستلزمات الطبية إليها، بما في ذلك تلك المنقذة للحياة.
تشهد المنظومة الصحية في مدينة غزة، الواقعة شمالي القطاع الفلسطيني المحاصر والمستهدف، تدهوراً غير مسبوق، وذلك وسط توسّع العملية العسكرية الإسرائيلية التي انطلقت في 13 أغسطس/ آب الماضي، في إطار حرب الإبادة المستمرّة على الفلسطينيين في قطاع غزة. وقد أدّى ذلك إلى خروج مستشفيات ومراكز صحية كثيرة عن الخدمة قسراً، لتتحوّل المنشآت المتبقية إلى مساحات تكتظ بالجرحى والمرضى كما بجثث الشهداء، الأمر الذي يثقل كاهلها ويجعلها غير قادرة على أداء دورها.
يأتي ذلك بعد إعلان المجاعة، رسمياً، في مدينة غزة الشمالية، في أغسطس الماضي، وتحذيرات من تمدّدها إلى الجنوب والوسط بحلول نهاية سسبتمبر/ أيلول الجاري. وهكذا، تزداد التحديات في مستشفيات مدينة غزة المتبقية يوماً بعد آخر، مع تواصل القصف الإسرائيلي الذي يخلّف فيها دماراً كلياً أو جزئياً، يُضاف إلى ذلك النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية والوقود لتشغيل مولداتها الكهربائية. يُذكر أنّ هذه ليست المرّة الأولى التي تُستهدَف فيها مستشفيات مدينة غزة، ولعلّ ما طاول مجمّع الشفاء الطبي في المدينة، الذي يُعَدّ أهمّ المنشآت العلاجية في قطاع غزة كلّه، بعد أيام على بدء الحرب، خير دليل.
وكانت منظمة الصحة العالمية، في إطار شجبها استهداف آلة الحرب الإسرائيلية المنظومة الصحية في مدينة غزة وسط الهجوم الأخير، قد أشارت إلى أنّ مدينة غزة تمثّل "العمود الفقري" للمنظومة الصحية في القطاع الفلسطيني كلّه. وأوضح المتحدّث باسم المنظمة طارق ياساريفيتش، في مؤتمر صحافي عقده في جنيف يوم الجمعة الماضي، أنّ المدينة تضمّ نحو نصف مستشفيات القطاع وكذلك مستشفياته الميدانية، في حين تعاني المستشفيات في جنوب القطاع ضغطاً شديداً وهي بالتالي غير قادرة على استيعاب مزيد من المرضى والجرحى. يُذكر أنّ ذلك أتى في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه منظمة أطباء بلا حدود تعليق عملياتها في مدينة غزة بسبب تصاعد الهجوم الإسرائيلي عليها.
من جهتها، أفادت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة أخيراً بأنّ 20 مستشفى وعيادة ومركز رعاية خرجت عن الخدمة قسراً في محافظة غزة (التي تضمّ مدينة غزة) ومحافظة شمال غزة اللتَين تشكّلان المنطقة الشمالية من القطاع الفلسطيني، وأبرزها مستشفى الرنتيسي التخصصي للأطفال ومستشفى العيون التخصصي ومستشفى حمد للتأهيل والأطراف الصناعية، في حين ما زالت ثمانية مستشفيات تعمل تحت الخطر، أبرزها مجمّع الشفاء الطبي والمستشفى المعمداني (الأهلي العربي) ومستشفى الهلال الأحمر الميداني - السرايا ومستشفى الحلو.
وأكدت وزارة الصحة أنّ قوات الاحتلال تعمّدت استهداف المنشآت الطبية في قطاع غزة بصورة مباشرة، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، الأمر الذي أدّى إلى انهيار المنظومة الصحية وخروج أكثر من 70% من المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة. وبحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي، فإنّ القوات الإسرائيلية استهدفت 37 مستشفى و80 مركزاً صحياً وأخرجتها عن الخدمة، كذلك استهدفت 162 مؤسسة صحية، لافتةً إلى أنّ من بين أبرز المستشفيات التي طاولها الدمار والخراب في شمال قطاع غزة مجمّع الشفاء الطبي ومستشفى كمال عدوان والمستشفى الإندونيسي ومستشفى العودة، إلى جانب مجمّع ناصر الطبي في محافظة خانيونس جنوبي القطاع وغيرها.
ويحذّر مدير وحدة المعلومات الصحية لدى وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة زاهر الوحيدي من "انهيار كامل للمنظومة الصحية في مدينة غزة"، مع استمرار توسّع العملية العسكرية الإسرائيلية منذ 13 أغسطس الماضي، التي أسفرت حتى الآن عن سقوط أكثر من 2800 شهيد وستة آلاف جريح، علماً أنّ الحصيلة الأخيرة تشير إلى أكثر من 65 ألف شهيد و167 ألف جريح. ويوضح الوحيدي لـ"العربي الجديد" أنّ "القصف والحصار أدّيا إلى إخراج مستشفيات عدّة عن الخدمة قسراً، من بينها مستشفى الرنتيسي للأطفال (الوحيد من نوعه في غزة) ومستشفى غزة للعيون، بالإضافة إلى نقطة الشيخ رضوان للطوارئ ومركز الرعاية الصحية في المنطقة ذاتها، فضلاً عن إخلاء المستشفى الميداني الأردني وتدمير مبنى الإغاثة الطبية في تلّ الهوى الذي كان المركز الوحيد المختصّ بفصل مكوّنات الدم. ويشير الوحيدي إلى أنّ "المستشفيات المتبقية في المدينة تعمل في ظروف صحية بالغة الصعوبة، إذ يتكدّس المرضى والجرحى في الممرّات، وسط نقص حاد في الأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية، إلى جانب ضغط كبير على العاملين الصحيين".
ويتحدّث مدير وحدة المعلومات الصحية لدى وزارة الصحة في غزة عن عاملَين رئيسيَّين يهدّدان حياة المرضى؛ أوّلهما نقص وحدات الدم ومكوّناته، إذ لا تتوفّر المستلزمات المخبرية اللازمة لفصلها، الأمر الذي يجعل حتى الوحدات المتبرّع بها غير قابلة للاستخدام. أمّا ثانيهما، بحسب الوحيدي، فأزمة الوقود، إذ لم يُسمَح بإدخال أيّ كميات منه إلى مستشفيات مدينة غزة، ما ينذر بتوقّف خدمات العناية المركزة والعمليات الجراحية وغسل الكلى والحاضنات في أيّ لحظة. ويتابع: "نحن نتحدّث عن ساعات قليلة، ربّما يتوقّف بعدها مجمّع الشفاء الطبي عن الخدمة، يليه المستشفى الأهلي العربي، فيما مستشفى القدس التابع للهلال الأحمر الفلسطيني في منطقة تلّ الهوى جنوبي مدينة غزة محاصر ويعمل وسط ظروف صعبة جداً".
ويحذّر الوحيدي من أنّ "المنظومة الصحية في مدينة غزة تلفظ أنفاسها الأخيرة"، مشيراً إلى أنّ أكثر من 400 ألف نازح اضطروا إلى مغادرة المدينة جنوباً، فيما تجاوز النقص في الأدوية 54%، وفي المستلزمات الطبية 67%، الأمر الذي يجعل رصيدها "صفراً" تقريباً. ويؤكد أنّ استمرار الوضع القائم حالياً يعني الحكم بالموت على آلاف المرضى والجرحى، قائلاً "ما نستطيع تقديمه اليوم لا يتعدّى خدمات إنقاذ حياة، في وقت تتدهور فيه أوضاع المرضى والجرحى بصورة مأساوية".
في سياق متصل، ما زال مجمّع الشفاء الطبي يقدّم خدماته رغم الخطر المحيط، في حين تتكدس فيه جثث الشهداء إلى جانب مئات الجرحى الذين ينتظرون أدوارهم لتلقّي العلاج، علماً أنّ كثيرين من هؤلاء لم يجدوا أسرّة شاغرة فافترشوا الأرض في الممرّات. ويقول مدير مجمّع الشفاء الطبي محمد أبو سلمية لـ"العربي الجديد" إنّ "الاحتلال الإسرائيلي يواصل تضييق الخناق على مدينة غزة"، ويشير إلى "اشتداد القصف على المناطق الغربية منها حيث يقع المستشفى"، لكنّه يؤكد أنّ المنشأة ما زالت تعمل على الرغم من كلّ الظروف الكارثية.
ويوضح أبو سلمية أنّ "مجمّع الشفاء الطبي يستقبل يومياً عشرات الجرحى وجثث الشهداء، فيما أكثر من 150 مريضاً يتلقّون علاجهم فيه. وهذا يجعل الطواقم الطبية تعمل تحت ضغط كبير، وسط مخاوف من تكرار سيناريو الاقتحام، مثلما حدث سابقاً، مع الإشارة إلى أنّ ممرضين وأطباء سقطوا (شهداء) في خلال الهجوم". يضيف أنّ "إغلاق مستشفيات حيوية مثل الرنتيسي للأطفال والعيون والقدس زاد العبء على مجمّع الشفاء الطبي الذي يُعَدّ المستشفى الأكبر في القطاع"، لافتاً إلى أنّ "خروجه عن الخدمة سوف يؤدّي إلى كارثة إنسانية، ولا سيّما أنّ ثمّة مئات النازحين في غرب مدينة غزة وهم معرّضون لخطر مباشر من جرّاء القصف".
ويؤكد مدير مجمّع الشفاء الطبي: "نحن أمام ساعات مفصلية. الأطباء يؤدّون واجبهم على أكمل وجه، لكنّ الوضع شديد الخطورة؛ لدينا في الحاضنات 14 طفلاً خديجاً، ومرضى في العناية المركزة، ولا نعرف كيف نتصرّف في حال اقتحام المجمّع وإخراجه عن الخدمة". كذلك يبيّن أنّ "ثمّة نقصاً حاداً في المستلزمات الطبية، وأنّ الطواقم تعمل فوق طاقتها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه"، شارحاً أنّ "طبيعة الإصابات الناجمة عن القصف معقّدة وتتطلّب تدخّلات متعدّدة في جراحة المخّ والأعصاب والأوعية الدموية والعظام والجراحة العامة، الأمر الذي يضاعف العبء".
ويكمل أبو سلمية أنّ "منظمة الصحة العالمية وفّرت إمداداً محدوداً من الوقود يكفي لأسبوع واحد، بعد أن كان الوضع على وشك الانهيار"، مشدّداً على أنّ "الخطر ما زال قائماً وأنّ أيّ توقّف للمولدات يعني تعريض حياة المرضى، خصوصاً الأطفال الخدّج والأشخاص الذين يرقدون في العناية المركزة، للموت الفوري". ويشدّد على أنّ "الطواقم الطبية تعمل في ظروف استثنائية. وعلى الرغم من كلّ المعاناة، نحاول تقديم الخدمة لشعبنا في مدينة غزة، لكنّنا نعيش وضعاً كارثياً، وثمّة ضحايا وجرحى كان يمكن إنقاذهم لولا نقص الإمكانيات وضخامة الأعداد".
من جهته، يقول مدير جمعية الإغاثة الطبية في قطاع غزة بسام زقوت لـ"العربي الجديد" إنّ مدينة غزة "تعيش وضعاً إنسانياً وكذلك صحياً غير مسبوقَين" مع انقطاعٍ كاملٍ لخطوط الإمداد، الأمر الذي حرم المستشفيات من الوقود والأدوية وجعل حركة الموظفين وعمليات الإسعاف غير آمنة. يضيف أنّ "النزوح الكبير والقصف المستمر أدّيا إلى خروج عدد من مقار ومراكز الإغاثة عن الخدمة، وأنّ الاعتماد الآن يقتصر جزئياً على العاملين الموجودين في مجمّع الشفاء الطبي والمستشفى الأهلي العربي، بعدما تضرّرت أو خرجت عن الخدمة مراكز مثل حيدر عبد الشافي وغيره".
ويبيّن زقوت أنّ "محاولات الاحتلال قطع الإمدادات أدّت إلى تراجع خدمات الرعاية تدريجياً"، متوقعاً أن يبقى في المدينة "مستشفى أو اثنان" فقط في أسوأ السيناريوهات، قبل أن يصدر الاحتلال بحقّه أو حقّهما أوامر إخلاء. ويشير إلى أنّ "عمل المستشفيات الميدانية صار بالغ الصعوبة، وأنّ مستشفى القدس في منطقة تلّ الهوى جنوبي مدينة غزة محاصر ويصعب الوصول إليه". وعن انعكاس ذلك على المرضى والجرحى، يقول زقوت إنّ "إصابات كثيرة لا تصلها إسعافات طبية، وإنّ المرضى وكذلك هؤلاء الذين يعانون من أمراض مزمة لا يملكون وسيلة موثوقة للحصول على العلاج بسبب انقطاع الإمدادات".
ويشدّد زقوت على أنّ "الاحتلال يسعى إلى تحقيق أهداف سياسية من خلال تدمير المنظومة الصحية، تنسجم مع مخطط يدفع نحو تهجير قسري وتفريغ المدينة من مقوّمات صمودها التاريخية"، ويطالب بـ"ضرورة رفع القيود فوراً وتأمين ممرّات آمنة وإدخال الوقود والأدوية والمستلزمات الطبية". يُذكر أنّ ما يجري في مدينة غزة اليوم ليس مجرّد أزمة صحية عابرة، بل انهيار شامل، علماً أنّ الحرب لم تترك للفلسطينيين في قطاع غزة خياراً سوى مواجهة الموت بصمت، سواء تحت الأنقاض أو على أسرّة المستشفيات المتهالكة.