محررو غزة في رمضان... أفراح ينغصها الدمار والحصار
استمع إلى الملخص
- يواجه المحررون تحديات كبيرة بسبب الظروف المعيشية الصعبة والدمار الذي لحق بمنازلهم، حيث اضطر بعضهم للعيش في خيام إيواء، محاولين التكيف مع الحياة الجديدة واستعادة اللحظات العائلية.
- تعكس قصص المحررين معاناة الأسرى داخل السجون الإسرائيلية، حيث عاشوا ظروفاً قاسية، ويحاولون الآن تعويض سنوات الغياب والمشاركة في الحياة اليومية رغم التحديات الاقتصادية.
يخشى محررو غزة، خاصة الذين تخلصوا من المحكوميات العالية في صفقة التبادل، أن تطاولهم الاغتيالات الإسرائيلية أو إعادة الاعتقال في حال توسع العدوان الإسرائيلي على القطاع.
بعد غياب لسنوات في سجون الاحتلال، وبعد أن ظلت موائد الإفطار والسحور تفتقد حضورهم، ولحظات الفرح ناقصة لكون مقاعدهم فارغة، يعيش أسرى فلسطينيون محررون حضوراً طال انتظاره لشهر رمضان في قطاع غزة، بعد الإفراج عنهم ضمن صفقة التبادل، لكن تجدد العدوان والقصف والاغتيالات وشبح النزوح بات يقلقهم.
كانت بيوت الأسرى المحررين في غزة، والذين خرجوا على دفعات منذ بدء سريات وقف إطلاق النار في 19 يناير/ كانون الثاني، تعج بأفواج من المهنئين بالحرية من الأقارب والجيران والأصدقاء، وتوالت دعوتهم من أفراد العائلة، أو جهات تعنى بالأسرى لحضور مأدبة إفطار رمضاني، على أمل تعويضهم عن سنوات الغياب.
لكن أجواء الفرح بالحرية وبحلول شهر رمضان تنغصها الظروف المعيشية الصعبة، والدمار الهائل، فبينما وجد بعضهم منزله قائماً، وجد آخرون منازلهم مدمرة، ليتركوا حياة السجون إلى حياة النزوح، ويشاركوا عائلاتهم المأساة، ومع تجدد الحرب بات الأمان الشخصي والعائلي أمرا ملحاً للمحررين وذويهم.
على مدار 33 عاماً من الأسر، كانت والدة الأسير المحرر ضياء الأغا تنتظر عودته إلى البيت، وهو يعرف بلقب عميد أسرى قطاع غزة، وكان وجوده على مائدة رمضان حلماً تاقت عينا الأم المسنة لعيشها. تحكي لـ "العربي الجديد" عن مرارة تلك السنوات: "لم يفطر ضياء معي منذ 33 سنة، اعتقلوه فتى صغيراً عمره 16 سنة، وكنت دائماً أحلم بحريته، حتى جفت عيناي من الدمع مع طول المدة. رمضان الحالي جميل لأن ضياء يجلس بيننا، وقد جهزت له مأدبة طعام تضم كل شيء متوفر ابتهاجاً بوجوده وبعودته إلى البيت".
مع تجدد الحرب بات الأمان الشخصي والعائلي أمراً ملحاً للمحررين
وتضيف أم ضياء: "حتى الآن لم نهنأ به، فالناس تأتي للتهنئة والزيارة، وبالكاد أستطيع الجلوس معه في وقت السحور، وهو يحدثني كيف زادت المعاناة مع بدء الحرب على غزة، والتي تضاهي في قسوتها سنوات الأسر كلها، وخلال تلك الفترة خسر نصف وزنه، وخرج بملامح عجوز تملأ التجاعيد وجهه، إذ مارسوا عليهم تعذيباً شديداً".
لدى المسنة الأغا ستة أبناء، وفي رمضان هذا العام اجتمعت العائلة وتجمع الأشقاء بحضور والدتهم، ليجد المحرر الأغا وجوهاً جديدة من زوجات وأبناء أخوة وأحفادهم، بينما لا يزال هو عازبا. تغير كل شيء بعدما سرقت السجون زهرة شبابه، وهو يطرق 49 سنة من عمره. تبتسم أمه وهي ترقب فرحة ممزوجة بقهرٍ نتيجة السنوات المسروقة من عمره، وتقول: "سنفرح به، ونزفه عريساً خلال الفترة المقبلة كي نعوضه عن سنوات الأسر".
أدرج اسم الأغا في الدفعة الأخيرة لصفقة التبادل، والتي أرجأ الاحتلال التزامه بها أسبوعاً، ونال حريته في 27 فبراير/ شباط الماضي، تؤكد أمه: "انتظرته من الصباح حتى منتصف الليل، وكانت كل دقيقة تمر كأنها عام، وعندما أخبرونا بإلغاء الإفراج عنه انهرت، وبكيت بشدة، وكاد أن يغمى علي أو أن أصاب بسكتة، إذ كان الأمر كالصاعقة، لكنه خرج إلينا أخيراً".

أمضى المحرر بهاء الدين القصاص (45 سنة) 23 سنة في سجون الاحتلال، وتحرر في صفقة التبادل قبل إكمال محكوميته المتبقي منها ستة أشهر فقط، وكان ينتظر اللحظة التي يخرج فيها كي يجتمع مع أمه وعائلته، لكن الواقع المرير في قطاع غزة فرض نفسه، خصوصاً في رمضان، فبعد نيل حريته، وجد بيته مدمراً بالكامل، وخرج ليكمل حياته في خيمة إيواء.
يقول القصاص لـ "العربي الجديد": "كنت أنتظر هذه اللحظات منذ 23 سنة، وخرجت بعد حرب إبادة في غزة، على أمل أن أعيش في بيتي، لكن الاحتلال قصف البيت، وهدم كل ذكرياتي. رغم ذلك، أنا سعيد لأني وجدت أهلي بخير، وها أنا أتنفس الحرية بينهم، وهذا أهم من كل شيء".
يعيش بهاء الدين في أحد مراكز الإيواء، ويحاول إخوته وأقاربه دعوته كل يوم على مأدبة إفطار يتخللها لحظات تعارف يستكشف خلالها أفراد عائلته الذين لم يرهم منذ سنوات، ويؤكد: "كل يوم أقضي رمضان عند شخص من أفراد العائلة، والجميع يحاول دعوتي، وهي أجواء سعيدة أعيشها بكل تفاصيلها التي حرمت منها بين الأهل، وخاصة مع أمي التي انتظرتني لسنوات طويلة".
لم يكن رمضان في السجون سهلاً على الأسرى، فبيئة السجن والعزل الانفرادي لا تسمح بعيش روحانيات الشهر الذي يتميز بطقوس اللمة واجتماع العائلات والأصدقاء. لا تغادر ذاكرته تفاصيل السجن: "كنا نشتري بعض الأغراض من (الكنتينا)، تمر وحليب وعصائر، وكنا نجهز أجواء رمضانية محدودة، وندعو بعضنا بعضاً داخل القسم، لكن منذ بدء حرب الإبادة على غزة، سحب الاحتلال كل شيء، وجرى تجويعنا وضربنا وعزلنا".

يمر أمامه شريط عام ونصف من المعاناة داخل السجن. ويقول: "كانت أشهر صعبة ومرعبة، واستشهد خلالها العديد من الأسرى، وعشنا في جوع متراكم، وكنا نأكل كميات قليلة من الأرز وشوربة مكونة من بعض الفاصوليا، مع غياب العلاج باستثناء حبة الأكامول التي كانت تعطى لكل شيء".
وعن أجواء رمضان في خيام الإيواء، تبرز مأساة جديدة ترافق حريته. يقول: "أجواء رمضان صعبة، لأن هناك عملية تجويع يمارسها الاحتلال بحق أهالي القطاع، والناس يحرقون الملابس لإشعال النار لأنه لا يوجد حطب أو أخشاب نتيجة منع دخول الغاز. أقوم بمساعدة العائلة في الطهي، ومحاولة الانغماس بالمعاناة التي يعيشونها. مع حلول ساعات المساء، أتجمع مع الأصدقاء والأقارب، وأروي لهم حكايا من السجن أمام موقد النار، ومواقف عشتها على مدار سنوات الأسر، والتنقل بين السجون الإسرائيلية".
في منزل آخر، تغيرت الأجواء الرمضانية لدى زوجة المحرر رائف الفرا (48 سنة) من مدينة خانيونس (جنوب)، فبعدما كانت تجلس على مائدة الإفطار مع ابنها رامز (25 سنة) وحدهما على الإفطار، أو مع بناتها الأربع المتزوجات حال دعوتها لهن، يعج البيت في رمضان الحالي بأفواج من المهنئين والزائرين من الأقارب والجيران، في طقوس غيرت حال البيت وملأته بالفرحة.
أمضى الفرا 21 سنة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وكان محكوماً بالسجن ستة مؤبدات وعشرين سنة، وكان يمر رمضان ثقيلاً على قلب زوجته التي كانت تنتظره بفارغ الصبر، وكانت تلك الأحكام بمثابة أغلال تقيد أمالها بلقائه حراً، ليتحقق الحلم، وتراه يجلس أمامها على مائدة رمضان، ويشاركها كل تفاصيلها مستفيداً من تجربة طويلة في الأسر، جعلته يستطيع إعداد الطعام بنفسه، وغسل ملابسه.
تقول الزوجة لـ "العربي الجديد": "رمضان مع وجود زوجي جميل، ولحظاتنا باتت كلها فرح، وأنستنا بعض الواقع المر في غزة. كنت أفتقده كثيراً، وانتظرته طويلاً. كنت في السابق أجلس مع ابني وحدنا، والآن اكتملت العائلة، ومن شدة فرحته يشاركني في طهي الطعام، أو يطهوه بنفسه، ويظل معنا طوال الوقت، أو يصطحبنا لمرافقته في كل التفاصيل، فهو يحاول تعويضنا عن غيابه لفترة طويلة. كل يوم، نتلو القرآن معاً بعد العصر، ثم نتشارك في إعداد مائدة الإفطار، فهذه الأجواء حرمنا منها طوال سنوات السجن، ولا يمكن وصف السعادة التي تغمرنا بعودته إلينا".
ما ينغص فرحة الفرا بتحرر زوجها، هو إغلاق الاحتلال للمعابر ونفاد معظم السلع الأساسية، وهو ما يصعب مهمتها في محاولة تغذيته بعد أن خسر نصف وزنه تقريباً نتيجة تصعيد الاحتلال إجراءاته خلال فترة الأسر التي تزامنت مع العدوان على غزة، وممارسة سياسة التجويع بحق الأسرى، تقول: "يحكي لنا أن الطعام اقتصر على كأس ماء به 4 حبات حمص أو فاصوليا مع أرز غير مطهو جيداً. وقد تفهم وضعي المعيشي، لأن ما نأكله حالياً كان يعيش على أقل منه طوال حياته في السجن".
تتابع: "لم أقابل زوجي منذ عشر سنوات، وعندما انتظرته في ساحة المشفى الأوروبي لم أتعرف إليه. عندما جاءت الحافلة كان يجلس بالمقعد الأمامي، ولم أنتبه أنه زوجي، حتى وهو يحمل على أكتاف الرجال، وسألتني ابنتي هل هذا أبي؟ كانت ملامحه مختلفة، تعطيه سنوات فوق عمره. كل هذا لا يهم، فنحن نعيش أجواء لم نعشها من قبل، ووجوده في البيت يمنحنا شعوراً بالأمان والراحة، وهو يزور شقيقاته وخالاته وأقاربه بعد سنوات من الغياب، وفي الليل يأتي الزوار لتهنئته بالحرية، ويعج البيت بهم في طقوس لم نعشها سابقاً. تغيرت حياتنا بالكامل".