محررو غزة... حياة جديدة رغم مآسي الفقد والدمار

18 فبراير 2025
حافلة أسرى غزة المحررين، 15 فبراير 2025 (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- استقبل أهالي غزة الأسرى المحررين بفرحة غامرة بعد الإفراج عن 333 أسيراً ضمن صفقة تبادل، حيث شعروا بأن الإفراج عنهم هو بمثابة ولادة جديدة رغم الدمار وفقدان الأحباء.

- يروي الأسرى المحررون تجاربهم المريرة في السجون، حيث تعرضوا للتعذيب، لكنهم يعتبرون الإفراج انتصاراً للشعب الفلسطيني، رغم التحديات التي يواجهونها في غزة المدمرة.

- يواجه الأسرى المحررون تحديات كبيرة في بيئة تفتقر للبنية التحتية، لكنهم يعبرون عن سعادتهم بالعودة لعائلاتهم ويؤكدون على أهمية إعادة بناء ما دمره الاحتلال.

لم يمنع كل ما شهده أهالي قطاع غزة من قتل ودمار وآلام ما زالت تسكن آلاف البيوت شعور الفرحة باستقبال الأسرى المحررين من سجون الاحتلال، الذين يتذوقون الحرية بعد أن أُسقطت أحكامهم العالية

يَعرف كل أسير فلسطيني أُفرج عنه من سجون الاحتلال ضمن دفعات صفقة التبادل الجارية بين المقاومة والاحتلال معنى الحرية، ومن بينهم أشخاص سقطت عنهم أحكام متعددة بالسجن المؤبد كانت تجعل سجونهم أشبه بقبور الأحياء. يفرح المحررون حتى لو كان خروجهم تنغّصه مشاهدة بيوتهم المدمرة أو استشهاد ذويهم، إذ إن طي صفحة السجن يماثل اختصار سنوات طويلة أرهقهم فيها انتظار لحظة الفرج، وفتح أبواب السجون، ومعانقة الأهل والأحباب، وزيارة قبور من توفوا.
وضمت الدفعة السادسة من المرحلة الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، إفراج الاحتلال عن 333 أسيراً من قطاع غزة اعتقلوا من القطاع بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
اعتقل المحرر وائل أبو ريدة، وهو من مدينة خانيونس، في 21 يونيو/ حزيران 2013، وحكم بالسجن 25 سنة، أمضى منها 12عاماً، وأُفرج عنه ضمن صفقة التبادل يوم 25 يناير/ كانون الثاني الماضي، ويمثل له هذا التاريخ "ولادة جديدة"، إذ خرج بعمر 47 سنة، ولو انتظر قضاء حكمه لخرج وهو في الستين.
من دون إبلاغه بإدراج اسمه ضمن المفرج عنهم، وعند منتصف الليل قبل أربعة أيام من الإفراج عنه، اقتحم جنود الاحتلال زنزانته في سجن ريمون، ونقلوه مع 13 أسيراً إلى سجن النقب. ومثّلت طريقة دخول السجانين، وحالة الغضب التي عبروا عنها بضرب الأسرى علامة لباقي أسرى القسم الذي يضم 120 أسيراً بأنها عملية إفراج، وردد بعضهم: "ترويحة يا شباب. تحملوا شوي".
يحكي أبو ريدة لـ "العربي الجديد": "وضعونا في أقفاص، وجردونا من ملابسنا، وتعرضنا للضرب والإهانة والشتم، وأجبرونا على مشاهدة مقطع فيديو عُرض عبر شاشة كبيرة يُظهر الدمار الهائل في قطاع غزة، تبعه كلام تحريضي على المقاومة، وعلى أهل غزة، وتهديدات لنا".
يضيف المحرر الفلسطيني: "عندما علمنا بقرار الإفراج، قررنا تحمل إجراءاتهم، حتى ونحن عائدون رافقنا عناصر شرطة داخل الحافلة، وكنا نكبر جماعياً من الفرح، لكن بصوت منخفض، فقد شعرنا أننا ولدنا من جديد، وحتى الآن أشعر أنني في حلم. عندما وصلنا إلى غزة، رأينا جرحى وأهالي شهداء يستقبلوننا، وبعضهم ممن فقدوا أطرافهم، وامتلأت بهم ساحة المشفى، وقد عاشوا معنا الفرح رغم كل ما عاشوه من ألم وفقد".
يتابع أبو ريدة: "سعادتي تتمثل في العودة لأبنائي، ولا زلتُ شاباً أستطيع تحمل مسؤولياتهم، وبناء بيتي المدمّر. عندما خرجت مع ابني الأكبر قبل يومين، سأله بعض الناس ممن لا يعرفونني عني، وقد فوجئوا بأني والده، ولو خرجت بعد إكمال المحكومية كنت سأعود إليهم مسناً في نهاية عمره".

ويصف الحرية قائلاً: "الإفراج عني هو يوم ميلاد جديد لي، وكل ما عشته في السجن من تعذيب انقضى عندما وطأت قدماي أرض غزة. الحرية ليس لها ثمن، حتى لو في خيمة، لأنك تستطيع التحرك، وتعيش مع أبنائك الذين تركتهم عندما كان عمر أكبرهم 12 سنة، وقد أصبحوا شباباً، وتزوجت ابنتي الكبرى، وأصبح لديها أربعة أبناء، وابني محمد (22 سنة) تزوج ولديه طفلان أحدهما يحمل اسمي، وابنتي الأخرى لديها طفل. أصبح لديّ سبعة أحفاد لم أرهم سابقاً، وأحاول حالياً التعرف إليهم".
لم يكن تقدُّم أعمار أبنائه أو ولادة أحفاده هو المتغير الوحيد الذي حصل مع أبو ريدة، إذ لم يستطع التعرف على معالم منطقته، أو الطرق المؤدية إليها نتيجة الدمار الهائل الذي شاهده لحظة وصوله في يوم الإفراج عنه إلى مستشفى غزة الأوروبي (مكان تسليم الأسرى)، والانتقال منه إلى مكان نشأته. يعلق: "صعقني الدمار، لم أعرف ملامح المنطقة، ولم أجد بيتي، لكنني رغم كل ذلك سأكمل حياتي مع أهلي في غزة".
في كل مساء، يجلس المحرر أبو ريدة أمام خيمته، ويشعل النار ليتجمع أبناؤه من حوله، يكسرون برودة الأجواء في جوٍ عائلي دافئ، وهو يقص عليهم بعضاً من قصص تجربة الأسر، وما تعرض له من تعذيب، وتفاصيل حياته داخل السجن، كما يسمع منهم عمّا عاشوه خلال الحرب. يقول: "رغم كل ما حدث، إلا أنني سعيد بالتواجد بين أبنائي، وسأكرس حياتي لهم".

فرحة أسرى غزة المحررين. 15 فبراير 2025 (أشرف أبو عمرة/الأناضول)
فرحة أسرى غزة المحررين. 15 فبراير 2025 (أشرف أبو عمرة/الأناضول)

وفي مقابل عملية الإذلال التي يتعرض لها الأسير الفلسطيني خلال عملية الإفراج عنه، يتحدث أبو ريدة عن المعاملة الإنسانية التي يتلقاها الأسير الإسرائيلي لدى المقاومة أثناء الإفراج عنه، ويردف بنبرة مليئة بالحسرة والقهر: "العالم يرى الشهادات التي يحصل عليها أسراهم والهدايا، وهذه أخلاق ديننا، التي تظهر كيف تعاملت المقاومة برحمة معهم في مقابل ما عشناه من صنوف الذل والضرب والتنكيل حتى آخر لحظات وجودنا في الأسر".
كما كان الأسرى يتوقون للحظة الإفراج عنهم، كان أهلهم في غزة يعيشون سنوات انتظار مرهقة. ظل الفلسطيني زويد الأغا (72 سنة) لسنوات يترقب معانقة نجله محمد، الذي كان محكوماً بالسجن 15 سنة، أمضى منها عشر سنوات، وتحققت الأمنية من خلال صفقة التبادل، وعانقه خارج أسوار السجن.
يقول زويد لـ "العربي الجديد": "مرت الأيام ثقيلة بعد أسر ابني في يوليو/ تموز 2014، لكنني صبرت طوال تلك السنوات التي كان اليوم فيها يمرّ كأنه سنة. كل المتاعب والمشقة خلال أشهر الحرب لم تمنع فرحتنا بحريته، رغم أن قطاع غزة تعرض لدمار كبير، عندما شاهد الناسُ الأسرى، اصطفوا على جانبي الطريق، وفي ساحة المشفى كان المشهد مهيباً، وعندما ذهبت للمشفى لاستقبال محمد لم أستطع الوصول إليه من شدة تدافع الناس، وهذه طبيعة حياتنا كشعب فلسطيني، نعيش أفراحنا وأحزاننا معاً".

من استقبال المحررين في خانيونس. 15 فبراير 2025 (أشرف أبو عمرة/الأناضول)
من استقبال المحررين في خانيونس. 15 فبراير 2025 (أشرف أبو عمرة/الأناضول)

جرب زويد الأغا أيضاً قسوة الأسر، إذ اعتقل عام 1973 لثلاث سنوات، تجرع خلالها مرارة البعد عن عائلته، وهو نفس الكأس الذي شربه نجله، وإن اختلفت المدة التي قضاها كل منهما في السجون، وقد حرم منذ سبع سنوات من زيارة نجله في السجن، لكن ما يؤلمه أنه استقبل ابنه في بيت مدمر، ورغم ذلك، يؤكد بنبرة تحدٍ: "سنعمر البيت مجدداً، حتى لو بنيته من طين".
أفرج عن المحرر يوسف المبحوح (33 سنة) في 8 فبراير/ شباط 2025، ليكتشف أن هناك 130 شهيداً من عائلته، منهم 23 من الدرجة الأولى، من بينهم طفلته رانيا (9 سنوات) التي كانت تحلم برؤيته حُراً، وشقيقاه، وجداه، وعدد من أعمامه وأولادهم، وكل عائلة زوجته.
لم يجد المبحوح بعد الإفراج عنه بيتاً يأويه، ولا حتّى خيمة، فبيته ومنازل جميع أقاربه الواقعة في مخيم جباليا شمالي القطاع تعرضت للقصف والتدمير، وهو يتنقل حالياً بين منازل أقارب أو أصدقاء مع طفله الوحيد طلعت (9 سنوات)، بينما تعيش زوجته مع شقيقتها، ويحاول لملمة شتات العائلة، كما ينشغل بانتشال جثث أشقائه وأقاربه من تحت الركام.

يقول يوسف لـ "العربي الجديد": "لا شك أن الحرية تبعث في النفس شعوراً بالفرح، لكن الواقع في غزة مؤلم. فقدت قائمة طويلة من أفراد العائلة، من بينهم طفلتي رانيا التي كنت أتمنى أن أحضنها لمرة واحدة بعد تحرري، وكنت أسمع صوتها عبر أثير الإذاعة وهي تتمنى رؤيتي، وقد كان خبر استشهادها مؤلماً، وعرفت به بعد شهرين من استشهادها، نقله لي الأسير نائل البرغوثي في سجن شطة، وطلب مني أن أتماسك، وألّا أضعف أمام إدارة السجن. عندما تحررت لم أجدها، ولم أجد جثة لها، لكنْ عزاؤنا أنهم شهداء، وسبقونا إلى الجنان، وهذا طريق اختاره الشعب".
يضيف المبحوح: "الواقع مرير في شمالي غزة، حتى أبسط المستلزمات الإنسانية غير موجودة، ولا بنية تحتية، وحتى الآن لا أجد مكاناً يأوينا، ونعمل على انتشال جثامين أفراد العائلة، وقد أخرجت جثة أخي عبد العزيز، وهو أصغر إخوتي. عندما وصلت إلى البيت سألت عنه، فقالوا لي إنه في الخلف، فطلبت حضوره، ثم تفاجأت أنهم يشيرون إلى مكان جثته، وعرضوا عليَّ مقطع فيديو صوّره لي، يعدني فيه بالحرية ويتوقع استشهاده".
حين تحرر يوسف المبحوح كان وزنه 54 كيلوغراماً، وهو الذي كان وزنه قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يبلغ 107 كيلوغرامات، نتيجة سياسة التجويع الممنهجة التي مارسها الاحتلال بحق الأسرى الفلسطينيين، إذ كانت وجبة الطعام اليومية عبارة عن كأس مياه فيه خمس حبات من الحمص أو الفاصوليا، إضافة إلى ملعقتي أرز غير مطهو جيداً، وهو يستذكر مرارة الأسر قائلاً: "أمضيت 16 شهراً على وجبات يومية لا تعادل ربع وجبة حقيقية، وخرجنا من السجن هياكل عظمية يكسوها اللحم بعد أن تعرضنا للتعذيب مرات كثيرة، وتعرضت لثلاث سنوات للعزل الانفرادي. كنت محكوماً بالسجن مدة 25 عاماً، أمضيت منها سبع سنوات، ما يمثل ولادة جديدة، وانتصاراً للشعب الفلسطيني. غادرت السجن شاباً في الثلاثينات من عمري، وليس في الخمسينات كما قررت محاكم الاحتلال".

المساهمون