مجزرة المسعفين... مهمّة إنسانية في رفح تتحول إلى جريمة إسرائيلية

05 ابريل 2025
يبكون ضحايا طواقمهم، خانيونس، 30 مارس 2025 (عبدالله العطار/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي طواقم الدفاع المدني والهلال الأحمر في رفح، مما أدى إلى إعدام المسعفين ودفنهم في حفرة جماعية، ونجا المسعف منذر عابد لكنه تعرض للاعتقال والتعذيب.
- عانى أهالي المسعفين من قلق شديد بعد فقدان الاتصال، ووجدت جثث المسعفين مقيدة ومصابة بإطلاق نار كثيف، مما يعكس نية الاحتلال في ارتكاب الجريمة بسبق إصرار.
- طالب المسؤولون الفلسطينيون بلجنة تحقيق دولية لتوثيق الجريمة وتقديمها لمحكمة الجنايات الدولية، مؤكدين أن استهداف الطواقم الإنسانية يعد جريمة حرب.

المجزرة وقعت في طريق شارع ميراج بالقرب من شاليه القادسية

الاحتلال حفر حفرة عميقة وكدّس الجثامين فيها واكتشفت بعد ذلك بأيام

فيديو لـ"نيوريورك تايمز" دحض رواية الاحتلال حول المجزرة

يوماً بعد يوم، تتكشّف بشاعة المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق مسعفين كانوا في طريقهم لمحاولة إنقاذ أرواح، في ما بدا أنها جريمة عن سبق إصرار.

في واحدة من أكثر المجازر الدموية بشاعة، لم تسلَم طواقم الدفاع المدني والهلال الأحمر الفلسطيني، التي لبّت نداءات ومناشدات أهالي حي تل السلطان غرب مدينة رفح (جنوب قطاع غزة)، ليرتكب الاحتلال مجزرة مروّعة بحق المسعفين بإعدامهم ودفنهم في حفرة جماعية، وقد عثر على المركبات مجمّعة فوق بعضها أعلى الحفرة.
وقعت مجمل أحداث المجزرة في طريق شارع ميراج بالقرب من شاليه القادسية. اعترضت قوات إسرائيلية خاصة، فجر الأحد- الموافق 23 مارس/آذار 2025، أربع سيارات إسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني وسيارتين تابعتين للدفاع المدني وسيارة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، أثناء مرورها عبر الطريق، وأطلق الجنود رصاصاً كثيفاً مباشراً تجاه السيارات.
كان المسعف منذر عابد، الذي نجا من الاستهداف واعتقل لمدة 15 ساعة وتعرّض لتعذيب شديد، ضمن طاقم سيارة الإسعاف الأولى، التي كان يقودها مصطفى خفاجة، وإلى جانبه عز الدين شعت. أما عابد، فكان يجلس في الخلف، وكانوا جميعاً متجهين من نقطة إسعاف تابعة للهلال الأحمر في اتجاه طريق ميراج لإسعاف مصابين في منطقة الحشاشين، بعد تعرّض منزل للاستهداف.

الاستهداف الأول

عن تفاصيل المجزرة، يقول عابد لـ "العربي الجديد": "عندما تحركنا باتجاه المنزل المستهدف، تعرضنا لإطلاق نار كثيف، ولم أتمكن من رؤية شيء بسبب الظلام. استمر إطلاق النار نحو خمس دقائق. اتخذت وضعية الانبطاح، وكنت أسمع شهقات الشهادة لزميليّ خفاجة وشعت. رأيت المناظير الليلية التي يضعها الجنود الذين تقدموا وفتحوا باب سيارة الإسعاف الجانبي وكانوا يرتدون زياً عسكرياً ويتحدثون العبرية، واقتادوني معهم". يضيف: "لم يكن يتواجد في المنطقة سوى الجنود الذين تخفوا عن الأنظار. لو كنا رأيناهم قبل إطلاق النار لابتعدنا عن المكان. لم تكن هناك آليات أو مسيّرات إسرائيلية. ومع إطلاق النار، توقفت السيارة وشممت رائحة حريق من المحرك. وبعد أمتار عدة، جاءت سيارة دفاع مدني ورأيتهم يطلقون النار عليها بشكل مباشر، لكنني لم أر إن كانوا مصابين أم شهداء. عندها، طلب مني الجنود الانبطاح ووجهوا السلاح نحوي ثم أخذوني معهم".
يتابع: "كل عدة دقائق، كنت أرى ضوء سيارة إسعاف وأسمع صوتها تقترب. لم أتمكن من الرؤية بسبب وجود جدار. كنت أسمع إطلاق الرصاص الكثيف يستمر لدقائق عدة ثم يتوقف، فعرفت أنهم استهدفوا السيارة من دون أن يعتقلوا أحداً. ومع حلول الصباح، رأيتهم يجمعون سيارات الإسعاف بعد حفر حفرة عميقة ويجمعونها فوق بعضها".
في مكان الاعتقال، جرّد الجنود المسعف عابد من ملابسه تماماً، ثم سمحوا له بارتداء ملابس داخلية سفلية. يقول: "تعرضت لكافة أنواع التعذيب الجسدي والنفسي والمعنوي. طوال الوقت، كانوا يضربونني بأعقاب البنادق. وضع أحد الجنود السلاح على رقبتي وكاد يقتلني. أحدهم غرز الخنجر في يدي بعد تقييدها إلى الخلف، وشعرت أنها ستقطع".

مع استمرار اعتقال الجنود للنازحين وجلبهم إلى مكان الحاجز حيث يتواجد فيه عابد، طلب أحد ضباط الاحتلال منه فرز النساء والأطفال على جهة والرجال على جهة أخرى. "سألته: إن فعلت ذلك ستفرج عني؟". فأخبرني أنه سيفحص ملفي لدى جهاز الشاباك. وعندما أخرج الجنود النازحين بعد فرزهم، اعتقلوا أشخاصاً بعدما ارتدوا ملابس بيضاء ووضعوهم في حفرة ولا أعرف ماذا حدث معهم. بقيت بمفردي. وعند حلول وقت المغرب في اليوم التالي، أفرجوا عني وكنت صائماً وفي وضع صعب. لم أحصل على وثيقتي الشخصية، وطلب مني التحرك باتجاه المواصي".
بالإضافة إلى التعذيب، تعرّض للشتائم، وركزت أسئلة التحقيق حول ما الذي كان يفعله يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واسمه الرباعي، ورقم هويته، وحالته الاجتماعية، وماذا كان يفعل في المنطقة. ويوضح: "أخبرت الضابط المحقق أنني كنت في مهمة إسعاف مصابين بعد استهداف في منطقة الحشاشين، وأن الجيش اعترض طريقنا وأطلق النار المباشر علينا".

فقدان الاتصال

عندما بدأت ترد أنباء عن محاصرة الاحتلال مسعفين، شعر والد المسعف رائد الشريف بوجود نجله معهم. بدأ يحاول الاتصال به وبزملائه من دون أن يجيب أحد، ما زاد من قلقه وخوفه على مصيره. امتدت حالة القلق لساعات عدة في اليوم الأول، ثم عانى جراء ثمانية أيام من الانتظار والبحث والترقب. كانت الأيام الأصعب في حياته.
عن لحظات الانتظار والترقب، يقول الشريف لـ "العربي الجديد": "كانت أصعب أيام حياتي. كنت أنتظر سماع أي خبر يطمئن قلبي. طوال الوقت، كنت على اتصال مع طواقم البحث، وكانت الصدمة أن الاحتلال قيّدهم وأعدمهم ودفنهم في حفرة".

تواصل إسرائيل استهداف المسعفين في غزة، 3 إبريل 2025 (سعيد محمد/الأناضول)
تواصل إسرائيل استهداف المسعفين في غزة، 3 إبريل 2025 (سعيد محمد/الأناضول)

لم يحتمل الشريف النظر إلى حال نجله. يقول: "عندما وصلنا إلى ثلاجة الموتى والشهداء في مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس (جنوب)، كانوا قد وضعوا صورة كل مسعف على كل كفن، وطلبوا منا الاكتفاء بهذه الصورة نظراً لبشاعة الجريمة وطريقة الإعدام". يتابع: "مُسعفون ذهبوا في مهمة إنسانية وعادوا شهداء. في أي دولة يحدث ذلك؟ وكيف يتم قتل المسعفين والصحفيين والأطباء والأطفال والنساء والمرضى بهذا الشكل البشع؟". يتابع: "في حال لم يرد الاحتلال إدخال الطواقم لإسعاف المصابين وانتشال الشهداء كان في إمكانه إعادتهم. لكنه يريد ارتكاب الجريمة عن سبق إصرار".
وعمل الشريف ضمن طواقم الإسعاف منذ بدء العدوان، وقبلها في مسيرات العودة. كان يحب مهنته الإنسانية وإنقاذ الأرواح. 

أدلّة على الجريمة

بحسب شهادات أخرى من الدفاع المدني، انتظر الاحتلال دخول طواقم المسعفين إلى منطقة الحدث في رفح، وأطلق النار بشكل مباشر على مركباتهم، وقد جرى إعدام الطواقم بشكل مباشر. ووُجدت علامات تدل على تقييد أيدي وأقدام جميع أفراد الطواقم، وقد أزيلت ملابس البعض. كما أن أحد العناصر كان مقطوع الرأس. وتركزت الطلقات النارية في منطقة الصدر، ورصد تعرّض كل فرد لنحو عشرين رصاصة في الصدر والفك والرأس، فيما أطلق الرصاص على أحدهم في منتصف رأسه.

الشهيد المسعف أشرف أبو لبدة، 30 مارس 2025 (عبدالله العطار/الأناضول)
الشهيد المسعف أشرف أبو لبدة، 30 مارس 2025 (عبدالله العطار/الأناضول)

وتظهر معطيات أخرى أن الاحتلال حفر حفرة يزيد ارتفاعها عن ثلاثة أمتار، ووضع الجثامين فوق بعضها في مشهد مأساوي. كما وجدت آثار طلقات رصاص على المركبات، ما يدل على أن الاحتلال نصب كميناً للمسعفين بهدف استدراجهم وقتلهم.
وأظهرت صور من المكان قيام جرافات الاحتلال بسحق ست مركبات تابعة للهلال الأحمر والدفاع المدني، بالإضافة إلى سيارة أخرى تابعة للأونروا، فيما عمد الاحتلال إلى جرف كامل للمنطقة، بهدف طمس معالم وآثار الجريمة. وجمع المركبات فوق الحفرة حيث دفنت جثث المسعفين.
ويقول المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني الرائد محمود بصل، إن إجمالي عدد الشهداء المسعفين الذين جرى انتشالهم حتى اللحظة بلغ 15 عنصراً، منهم 6 يتبعون للدفاع المدني و9 يتبعون للهلال الأحمر الفلسطيني، فضلاً عن العثور على جثة أحد أفراد الأونروا من عائلة شحتو.
ويؤكد بصل لـ "العربي الجديد" أن الطواقم ذهبت في مهمة اعتيادية لتلبية استغاثة الأهالي بعد استهداف عند الساعة الرابعة وعشرين دقيقة (بحسب التوقيت الفلسطيني). ولم تكن هناك أية مظاهر عسكرية كوجود آليات وجنود في توقيت دخول سيارات الإسعافات. وفي هذه الحالة، لا يحتاج الأمر إلى تنسيق كون الاحتلال غير موجود.
ويلفت إلى أن طواقم الإسعاف فوجئت بدخول جيش الاحتلال إلى مدينة رفح ومحاصرة الأهالي، ونصب كمين. وبحسب بصل، جرى التنسيق من خلال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" وليس من خلال اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وذلك بعد رفض متكرر من الاحتلال. لكنه في اليوم الثامن لفقدان أثر الطواقم، سمح بالدخول لانتشالهم، وذلك في أول يوم لعيد الفطر الموافق 30 مارس.
ويؤكد بصل أنهم طالبوا بتشكيل لجنة تحقيق دولية رسمية، لتقديم تقرير فني عبر لجان مختصة لمحكمة الجنايات الدولية، مشيراً إلى أن اللجان المختصة في غزة والطب الشرعي والجنائي قامت بجمع كافة الأدلة، مشدداً على أن الأمر ليس عادياً، فهو يتعلق بارتكاب مجزرة بشعة بحق المسعفين.

ويرتفع عدد شهداء طواقم الدفاع المدني إلى 100 منذ بدء العدوان، بحسب بصل، مؤكداً أنها المرة الأولى في القرن الحديث الذي يتم فيها استهداف طواقم إنسانية بهذه الطريقة البشعة.
وترتقي الجريمة، كما يقول رئيس الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، صلاح عبد العاطي، إلى مستوى جرائم الحرب، لأن القوانين الدولية وفرت حماية خاصة للمسعفين الذين تحولوا من منقذين إلى ضحايا. ويقول لـ "العربي الجديد": "هذه الجريمة تستنفر البشرية وتستدعي تحركاً دولياً، ليس لإدانتها فقط بل لمساءلة إسرائيل عنها، وتوفير الحماية للمسعفين".
ونتج عن الجريمة استشهاد ستة أفراد من الدفاع المدني، وهم الضابط أنور عبد الحميد العطار قائد المهمة الإنسانية، وسائق الإطفاء زهير عبد الحميد الفرا، وضابط الإطفاء سمير يحيى البحابصة، وضابط الإطفاء إبراهيم نبيل المغاري، وسائق الإسعاف فؤاد إبراهيم الجمل، وضابط الإسعاف يوسف راسم خليف.
فيما ذكر الهلال الأحمر أسماء الشهداء المسعفين وهم: مصطفى خفاجة، وعز الدين شعت، وصالح معمر، ورفعت رضوان، ومحمد بهلول، وأشرف أبو لبدة، ومحمد الحيلة، ورائد الشريف وأسعد النصاصرة.

المساهمون