مجازر مخيم جباليا | مسح معظم عائلة حجازي من السجل المدني (20)

23 يناير 2025
ٍعملية بحث وإنقاذ بين أنقاض المباني السكنية بمخيم جباليا، نوفمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي الكاتب قصصاً مؤلمة عن المجازر في قطاع غزة، حيث تعرضت عائلة حجازي للقصف مرتين، مما أدى إلى مقتل معظم أفرادها ونزوح الناجين.
- الأستاذ محمد حجازي، مدرس محبوب، فقد حياته في المجزرة، بينما نجا أبناؤه أحمد وديما. أحمد حاول البحث عن جثث عائلته وعاش تجربة اعتقال قصيرة.
- بعد ستة أشهر، تم انتشال بعض رفات العائلة، مما أعطى أحمد بعض الراحة. يعيش الآن في خيمة بعيداً عن شقيقته، بينما يبقى مصير عمه محمود مجهولاً.

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم، ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجل المدني، وناجين عاشوا وتحملوا كافة أنواع القهر.


في قلبي ذكرى طيبة عن جاري محمد حجازي (47 عاماً)، الذي طالما تدخل لإسداء النصح إليّ في فترة مراهقتي، كما توسط بيني وبين والدي وتعهد بالنيابة عني بأن لا أكرر أخطاء تلك الفترة. لقد كان من أعز أصدقائي والدي الشهيد الذي لم يكن يرفض له طلباً. عُرفت عن حجازي طيبته وأناقة شكله وعباراته، ولا عجب فقد كان مدرّساً للغة العربية في إحدى مدارس وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" في مخيم جباليا، أما زوجته آمنة (43 عاماً) فكانت تعمل مهندسة في وكالة أونروا أيضاً.

رزق جارنا حجازي بأربعة أبناء، أحمد (24 عاماً)، وقد أنهى دراسة الهندسة المعمارية من الجامعة الإسلامية، شقيقته ديما (21 عاماً) التي درست التمريض في الجامعة نفسها، يحيى (13 عاماً) المهتم بممارسة كرة القدم ومتفوق في دراسته، وآخر العنقود الصغيرة راما (عشرة أعوام).

الشهيد الأستاذ محمد حجازي (العربي الجديد)
الشهيد الأستاذ محمد حجازي (العربي الجديد)

بجانب مهنة التعليم، كان الأستاذ محمد، مهتماً بالجانب الرياضي وشغل منصب عضو مجلس نادي شباب جباليا الرياضي، بالإضافة إلى أنه كان مسؤولاً عن اللجنة الرياضية في حي بلوك "7" لمخيم جباليا. كنا نطلق عليه لقب "المتكتك"، إذ كان يختار ملابسه بعناية، وكان نوع عطره مميزا، حتى أن سيارته الحمراء كانت دائماً نظيفة من الداخل والخارج.

 الشهيد محمد وزوجته وطفلته راما (العربي الجديد)
الشهيد محمد وزوجته وطفلته راما (العربي الجديد)

كانت ابتسامته عنوان أحاديثه مع أبناء الحي في المخيم، لقد كان حقاً نموذجا يحتذى به. سكن في منزل مكوّن من طابقين في عمق مخيم جباليا تحديداً في بلوك "7"، أو وما تُعرف بمنطقة ساحة الخلفاء، في الطابق الأول كان يعيش شقيقه محمود (38 عاماً) وزوجته الممرضة فداء (36 عاماً)، وطفلتاه جنى (13 عاماً)، وشام (3 سنوات).

في الأسبوع الأول من الإبادة، تضرر منزل حجازي بشكل بالغ من القذائف المدفعية التي انهالت على المنطقة، لم يصب أحد في ذلك الوقت، واضطروا جميعا للنزوح بشكل داخلي، لمنزل أقارب لهم، وتحديداً لمنزل عائلة زوجة الأستاذ محمد، ويبعد قرابة 100 متر عنهم، فالمنزل الذي احتموا فيه يفصل بين بلوك "6" وبلوك "7" بالمخيم.

ما تبقى من جثامين شهداء حجازي (العربي الجديد)
ما تبقى من جثامين شهداء حجازي (العربي الجديد)

ليلة 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أي بعد 40 يوماً من إعلان الجيش الإسرائيلي الإبادة على قطاع غزة، ألقت الطائرات الحربية، ثلاث قنابل على المربع السكني الذي كانت تحتمي فيه عائلة حجازي، المنزل الذي كانوا فيه مكون من ثلاثة طوابق، وقد سُوي بالأرض وأصبح كل من فيه شهداء، وقُدّر عددهم بـ20، وقد نجا بأعجوبة ثلاثة فقط، هم: المهندس أحمد نجل الأستاذ محمد وشقيقته ديما وعمهما محمود.

يقول أحمد الذي مُسحت عائلته من السجل المدني ولم تبق سوى شقيقته: "أمي وخالاتي أعددن عشاء كبيراً لنا، اجتمعنا على مائدة واحدة كان عددنا 23 تقريباً، رغم الخوف والرعب، في تلك اللحظة كنا نشعر بدفء العائلة، وقتها أذكر طلب والدي أن ننام مبكراً، جميعهم ناموا، وبقيت وحدي أقلب شاشة الهاتف، وفجأة شعرت بارتجاج بدماغي، ثم جاء شخص وسحبني من بين الركام".

الشهيدة المهندسة آمنة حجازي (العربي الجديد)
الشهيدة المهندسة آمنة حجازي (العربي الجديد)

لم يتعرض أحمد لأي أذى، بعدما استجمع قواه في اليوم التالي، حاول بيديه العاريتين الحفر عن جثامين عائلته، خاصة أنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي أعطبت الآلات المخصصة للحفر، ولكن لم يفلح المهندس بالوصول إلى أي جثة. جميع محاولاته باءت بالفشل، يكمل عن تلك اللحظات: "أسبوع كامل وأنا أحفر بيدي عن جثث عائلتي، تواصلت مع جميع الجهات المعنية ولكن دون جدوى".

صورة جماعية لعائلة حجازي ويظهر معهم الناجي أحمد في حفل تخرجه (العربي الجديد)
صورة جماعية لعائلة حجازي ويظهر معهم الناجي أحمد في حفل تخرجه (العربي الجديد)

حين اجتاحت قوات الاحتلال مستشفى كمال عدوان في نهاية عام 2023، جرى اعتقال أحمد لمدة يومين، وأفرج عنه وألقي في جنوب قطاع غزة، واليوم يعيش لوحده في إحدى الخيام، بعيداً عن شقيقته ديما التي نزحت إلى حي الشيخ رضوان والآن هي وحيدة أيضاً.

بعد ستة أشهر من المجزرة، تمكّن أهالي المخيم من انتشال رفات منْ تبقى من جثامين عائلة حجازي، وقد أخرجوا جثمان الأستاذ محمد وزوجته المهندسة وما تبقى من طفلتهما راما. يقول أحمد: "الآن أشعر بالراحة قليلاً، فأمي وأبي وأختي ينامون الآن في قبر، أتمنى أن أعيش مع أختي الوحيدة (..) هذه الإبادة فعلت بنا كل شيء، دمّرت منازلنا، وقتلت عائلتنا، وفرّقت منْ تبقى منا".

 الطفل الشهيد يحيى حجازي (العربي الجديد)
الطفل الشهيد يحيى حجازي (العربي الجديد)

لم يتبق لأحمد سوى الذكريات، إذ استعان بعبارة للروائي إبراهيم نصر الله، من "قناديل ملك الجليل"، ليختصر ما يريد إيصاله: "الذكريات هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتغلب به البشر على الزمن، لأنهم يؤكدون لأنفسهم بها، أنهم لم يكونوا مجرد عابرين لهذه الحياة". بالنسبة لمحمود الذي مسحت عائلته من السجل المدني، زوجته وطفلتاه، انقطعت أخباره، ولم يعرف عنه سوى أنه تعرض لإصابة بالغة وجرى نقله إلى المستشفى، ليصبح مصيره مجهولاً.

المساهمون