مجازر مخيم جباليا| كيف نجت ياسمين أبو العوف وجنينها من المذبحة؟ (21)

24 يناير 2025
فلسطينيون نازحون على حدود مخيم جباليا، 25 أكتوبر 2024 (الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهد مخيم جباليا في غزة مجازر مروعة منذ أكتوبر 2023، حيث فقد العديد من السكان حياتهم، بينما تحمل الناجون المعاناة، ومن بينهم عبد الله أبو العوف الذي دعم عائلته وجيرانه خلال الاجتياحات.
- بعد انتهاء الحملة العسكرية في مايو 2024، بدأ عبد الله مشروعًا صغيرًا وقرر الزواج من ياسمين سلمان، ليبدأ حياة جديدة وسط الدمار، مما جلب فرحة للمجتمع المحلي.
- في أكتوبر 2024، تعرض المخيم لحملة عسكرية جديدة، مما أدى إلى استشهاد عائلة عبد الله باستثناء زوجته ياسمين، التي نزحت إلى حي الشيخ رضوان.

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم، ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجل المدني، وناجين عاشوا وتحملوا كافة أنواع القهر.


هناك خرافة كانت متداولة بين نساء الحي الذي نسكن فيه "بلوك 7" في قلب مخيم جباليا، أن المنزل الملاصق لنا مصاب بـ"لعنة"، فكل من يسكنه يصاب بنكسة أو تقع عليه مصيبة. وقد حصلت عدة أحداث مع المستأجرين الذين سكنوا هذا المنزل الصغير المكون من طابقين، من بينها تعرضه لحريق.. لكنها تبقى مجرد "خرافات عجائز"، وأن "كل شيء خلق بقدر".

قبل ثماني سنوات، اشترت السيدة عزة عقل (60 عاما) هذا المنزل، لأنها أرادت العودة إلى مسقط رأسها في مخيم جباليا بعدما قضت ثلثي عمرها مقيمة في مدينة العريش المصرية، إذ تزوجت في مصر وعاشت هناك، وقبل الإبادة بأشهر قليلة، سافرت إلى إحدى الدول الأوروبية.

قبل بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بأيام، عاد ابنها عبد الله أبو العوف (29 عاما) إلى مخيم جباليا، واستقر وحده في المنزل، خاصة بعدما أنهى دراسة المحاسبة. اندمج سريعا في المخيم، بحكم أن لديه أقارب لعائلة أمه، كذلك هو شخص ذكي اجتماعيا، سريع جدا في نسج العلاقات، لقد أصبح واحداً من أبناء الحي، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم.

الشهيد عبد الله أبو العوف (العربي الجديد)
الشهيد عبد الله أبو العوف (العربي الجديد)

في الاجتياح الأول لمخيم جباليا الذي كان في نهاية عام 2023، كنت قلقا جدا على أمي وشقيقاتي الخمسة، خاصة أني وشقيقي محمد خارج البلاد، ولم يبق أحد من شبان العائلة لمساندة نساء عائلتي، لكن عبد الله كان خير سند. إذ احتمى وعائلتي في منزل واحد في تلك الهجمة، ولم يخرجوا من الحي رغم مئات القذائف التي سقطت عليهم وحولهم، أخبرتني شقيقتي سارة أن عبد الله كان يرفع المعنويات وقد عوضهم الله به عن غيابنا.

الشهيد عبد المجيد سلمان والد ياسمين ووالدته (العربي الجديد)
الشهيد عبد المجيد سلمان والد ياسمين ووالدته (العربي الجديد)

كذلك الأمر بالنسبة للتجويع الذي تعرض له مخيم جباليا والذي امتد لشهرين وأكثر، كان عبد الله مجتهدا في توفير شتلة "الخبيزة" وبعض المعلبات والماء، وكان يخصص الحصة الأكبر لأمي وشقيقاتي وأطفالهن. في الحملة العسكرية الثانية على المخيم في مايو/أيار 2024، نزح داخليا كل سكان الحي، واحتموا في المنازل الواقعة في محيط مستشفى كمال عدوان، أي في الجهة الشمالية من المخيم.

لكن عبد الله لم يخرج، وبقي بجانب والدي خليل أبو الطرابيش الذي رفض الخروج من منزله في ذلك الوقت، حين ارتقى أبي داخل صحن المنزل بعدما استهدف بشكل مباشر بصاروخ من طائرة مسيرة، أول شخص كان عنده هو عبد الله، كان ذلك في صبيحة 15 مايو 2024.

والدي الشهيد خليل كانت إصابته بليغة لكن بقي على قيد الحياة ثلاث ساعات، في الساعة الأولى، أجرى له عبد الله الإسعافات الأولية، ومسح وجهه من الغبار وسقاه الماء، واتصل برجال الإسعاف، لكنه حين وصل إلى المشفى فارق الحياة. بعد هذه الحادثة، لم يخرج عبد الله من الحي، وسجل على أنه الشخص الوحيد في مخيم جباليا الذي بقي صامدا طوال حملة مايو 2024.

الطفلين الشهيدين روان ونضال عبد المجيد (العربي الجديد)
الطفلان الشهيدان روان ونضال عبد المجيد (العربي الجديد)

حين انتهت حملة المجاعة والحملة العسكرية في نهاية مايو، عمل عبد الله على بسطة "فول وفلافل"، تقريبا كل أبناء وأطفال ونساء مخيم جباليا قد أكلوا من "الفلافل" التي كان يصنعها. في أغسطس/ آب عام 2024، قرر عبد الله الزواج، وحدث ذلك سريعا، رمم ما يمكن ترميمه في المنزل، علما أن أغلب المنازل في المربع تعرضت لتدمير شبه كلي، ولحسن الحظ، منزل عبد الله، بحكم أنه مسقوف بالباطون، كان الأقل ضررا.

أقيمت حفلة صغيرة في منزل عبد الله بعدما عقد قرانه على عروسته ياسمين سلمان (20 عاما)، كانت هذه الفرحة الأولى لمربعنا وسط الإبادة. مع بداية أكتوبر/تشرين الأول 2024، أي قبل الحملة العسكرية الثالثة على مخيم جباليا بأيام، كان عبد الله أسعد شبان الحي حين أخبرته عروسته أنها حامل، وقد شاركنا جميعا هذه الفرحة.

في ليلة السابع من أكتوبر، بدأت الحملة العسكرية الإسرائيلية على المخيم، جوا وبرا وبحرا، تقريبا كان تركيز القنابل والمدفعية على عمق المخيم، أي في بلوك "7" وبلوك "8" وبلوك "9". إثر ذلك، نزحت عائلة زوجة عبد الله التي كانت تقيم في طرف الحي، فمنزلها المغطى بالقرميد لا يصمد كثيرا أمام مئات القذائف، فاختاروا منزل نسيبهم عبد الله ليحتموا فيه.

وأصبح من في المنزل بجانب عبد الله وزوجته، الحاجة جميلة سلمان (67 عاما)، وعبد المجيد سلمان (43 عاما)، وزوجته آمال أبو مهادي (39 عاما)، وأبناؤهم الخمسة، أفنان (18 عاما)، نور (15 عاما)، رزان (13 عاما)، روان (8 أعوام)، وصغيرهم نضال (3 أعوام).

بعد 20 يوماً من الرعب والخوف والمحاصرة في دائرة النار، وفي ليلة 24 أكتوبر/تشرين الأول 2024، نفذت الطائرات الحربية حزاماً نارياً على مربعنا، وحوّلت سبع منازل إلى حفر كبيرة، وقتلت وقتها قرابة 100 شخص. كل من في منزل عبد الله استشهد، وتطايرت جثثهم إلى ساحة منزلنا الذي تحول نصفه إلى حفرة.  لقد دفن جيراننا في منازلهم، ومع الحملة العسكرية على مخيم جباليا، لم يستطع أحد حينها التقدم إلى المربع المستهدف وانتشال الجثث.

وسط الاستهداف والدمار، حصل شيء أشبه بمعجزة، حين نجت ياسمين وجنينها، إذ دفعها ضغط الانفجار من المنزل، ولم تصب إلا بخدوش بسيطة، وهي الآن تتمتع بصحة جيدة وبدأ بطنها يكبر ويظهر حملها، كذلك القهر والحزن يكبر في قلبها بعد رحيل زوجها وأمها وأبيها وإخوتها الخمسة. ويقال إنها الناجية الوحيدة من المربع المستهدف.

حاولت الوصول إلى ياسمين للحديث معها، لكن صعوبة توفر وسيلة اتصال حالت دون ذلك، لكنني توصلت إلى معلومة أنها قد نزحت إلى حي الشيخ رضوان وتجرى رعايتها من أحد الأقارب.

لقد مسحت إسرائيل مربعنا على دفعتين خلال عام واحد، ففي نهاية عام 2023، مسحت الجزء الشمالي من الحي، وعادت بعدها بعام وأكملت الجزء الثاني، وبذلك مسحت ثلاثين عائلة من السجل المدني، ولم يتبق إلا قلة وعلى رأسهم ياسمين والجنين المنتظر. أما عبد الله فقد كان آخر شيء أرسله لي قبل يومين من رحيله: "حمزة يا جار.. لا تحزن إن الله معنا".

المساهمون