مجازر مخيم جباليا | طن من المتفجرات يقضي على عائلة حلاوة (27)

08 فبراير 2025
صورة لشهداء عائلة حلاوة، مجازر مخيم جباليا (العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- مأساة عائلة حلاوة في مخيم جباليا: تعرضت عائلة حلاوة لمجزرة مروعة في مخيم جباليا شمالي غزة، حيث قُتل معظم أفرادها في قصف جوي إسرائيلي، ولم ينجُ سوى عبد الله وابنة عمه هناء، مما أدى إلى شطب العائلة من السجل المدني.

- الحياة اليومية قبل المأساة: كانت العائلة تعيش حياة بسيطة ومسالمة، حيث كان الحاج فوزي يدير تجارة الفواكه والخضروات، وكان منزلهم مركزاً اجتماعياً واقتصادياً في الحي.

- النجاة والتحديات بعد المجزرة: نجا عبد الله وهناء فقط، وواجه عبد الله صدمة نفسية كبيرة، لكنه قرر الحفاظ على إرث عائلته في بيع الفواكه والخضروات، منتظراً الإفراج عن ابن عمه محمود.

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير 2025. لكن كلّ ما أعرفه، أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم. ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء..


سجلت مجزرة عائلة حلاوة، في مخيم جباليا، على أنها أول مذبحة في تاريخ الإبادة التي امتدت لـ 15 شهراً، قبل أن التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، بصيغة أبسط عائلة حلاوة هي أول عائلة شطبت من السجل المدني بجانب 10 آلاف عائلة مسحت من السجل وفق التقدير الأولي لوزارة الصحة الفلسطينية.

كنا نقف، في الصيف، صغاراً وكباراً، طوابير أمام منزل الحاج فوزي حلاوة الواقع في قلب شارع الهوجا في مخيم جباليا، لشراء البطيخ، أزعم أنني أكلت أفضل بطيخ أنتجته السلة الغذائية العالمية خلال القرن الأخير، إذ كان الحاج فوزي أشهر بائعي الفواكه والخضروات في المخيم. ولا أعلم مصدر منتجاته، ربما كان يزرعها بيده، المهم أن جودتها عالية وطعمها لذيذ جداً، حتى إنّه كان مقصداً للقادمين من أماكن بعيدة بمختلف مناطق محافظات قطاع غزة، لشراء البطيخ منه.

ويعد الحاج فوزي أكبر مُعمر في المخيم، وقد وصل عمره إلى 112 عاماً، وهو من بلدة هوج المحتلة، شهد في شبابه النكبة عام 1948، كان يعمل معه أبناؤه وأحفاده، ويساعدهم الجيران من شدة ازدحام الناس أو المشترين، وخاصة بعد صلاة يوم الجمعة، فمن طقوس العوائل الفلسطينية في ذلك اليوم أنهم يعدون أشهى الطعام ويجتمعون على مائدة واحدة، ثم يتبعونها بالحلوى أو تناول الفواكه مثل البطيخ والشمام صيفاً.

تعد عائلة حلاوة من العوائل العملية المسالمة في مخيم جباليا، لم أذكر يوماً، رغم كثرة أعدادهم، أنهم افتعلوا مشكلة أو عراكاً مع الجيران أو أبناء الحي. تقريباً عائلة حلاوة نموذج للأخلاق والهدوء والسعي الدؤوب للعمل. ويأخذ المنزل الذي تعيش فيه تلك العائلة شكلاً طولياً، فهو مكون من طابق واحد غير الأرضي الذي خُصصت نسبة كبيرة منها كمخازن لتجارة العائلة.

الصورة
الشهيد الفتى يوسف عاطف حلاوة، مجازر مخيم جباليا (العربي الجديد)
الشهيد الفتى يوسف عاطف حلاوة، مجازر مخيم جباليا (العربي الجديد)

في الطابق الأرضي يعيش الابن الأكبر للحاج فوزي، يدعى عاطف "61 عاماً"، وزوجته فريال "51 عاماً"، وأبناؤهم ستة، الكبير محمد "36 عاماً"، يعمل سائق أجرة، متزوج من عبير أبو صفية "30 عاماً" ولديهما طفلة صغيرة عمرها عام ونصف اسمها جوري، والابن الثاني محمود "31 عاماً" يعمل رجل مرور، متزوج من ابنة عمه هبة "24 عاماً"، لديه طفلان؛ مالك عامان والرضيغة ملك تسعة أشهر. والابن الثالث أحمد "27 عاماً" أنهى دراسة المحاسبة ولم يجد فرصة عمل، ورابعهم أيمن "25 عاماً"، يعمل مع أعمامه في السوق، والخامس هي عطاف "15 عاماً"، وصغيرهم يوسف "12 عاماً". وتعيش معهم أيضا المُسنة (محضية) "95 عاماً"، وهي شقيقة الجد فوزي.

وللإشارة تعد عائلة حلاوة من العوائل المُعمرة، أي هناك طفرة جينية تتميز بها تلك العائلة تمكنهم من العيش طويلاً خلافاً للعمر المتوسط في الشعوب العربية أو الشرق أوسطية، إذ يموت أو يرحل الفرد من عائلة حلاوة بعد أن يبلغ قرناً كاملاً تقريباً.

الصورة
الشهيد عبد الحليم فوزي حلاوة، مجازر مخيم جباليا (العربي الجديد)
الشهيد عبد الحليم فوزي حلاوة، مجازر مخيم جباليا (العربي الجديد)

عودة لتوزيع العائلة في المنزل، الطابق الأول مقسم إلى شقتين، من جهة الشرق، شقة عبد الحليم الابن الثاني للحاج فوزي، عمره "56 عاماً" وزوجته سهام "53 عاماً"، لديهما من الأبناء هبة متزوجة من محمود ابن عطاف المذكورة سلفاً، وهناء "23 عاماً". فيما الجزء الثاني من الجهة الغربية، يعيش فيه الابن الأخير للحاج فوزي، وهو هاني "48 عاماً" وزوجته إيمان "46 عاماً"، وأبناؤهم الستة، عبد الله "21 عاماً"، تهاني "24 عاماً"، بلال "20 عاماً"، سندس "19 عاماً"، وسجى "12 عاماً" ونادر تسعة أعوام.

في اليوم التالي من الإبادة لجأ إلى ذلك المنزل المكتظ بالأطفال والنساء، أحد أبناء عموتهم وهو ناجي "47 عاماً" وزوجته أمل "40 عاماً" وأطفالهم الخمسة. كما لجأت إليهم ابنة عمهم أميرة "38 عاماً" وزوجها ميزر "42 عاماً" وأبناؤها السبعة، أكبرهم محمد "19 عاماً"، وأصغرهم الرضيع عبد الجواد ستة أشهر.

وفي الليلة الخامسة من الإبادة، أي في 12 أكتوبر 2023، جلست العائلة جميعها في شقة عبد الحليم، تقريباً أكثر من 35 شخصاً في تلك الغرفة الواسعة، باستثناء أحمد ومحمود أبناء عاطف. يقول عبد الله ابن هاني، وهو وريث جده في بيع الخضروات والفواكه: "كنا نجلس مع بعضنا، نحاول نطرد الخوف عن الأطفال، وفجأة غبت عن الوعي للحظة، وحين استيقظت، وجدت ظلمة شديدة وصراخاً من كل اتجاه". هذه شهادة حية لعبد الله في اللحظات الأولى حين أسقطت طائرة حربية إسرائيلية صاروخاً يزن طناً على منزل عائلة حلاوة، لتقتل من فيه من نساء وأطفال ورجال، ونجا فقط عبد الله وابنة عمه هناء ابنة عبد الحليم.

الصورة
صورة جماعية لشهداء عائلة حلاوة، مجازر مخيم جباليا (العربي الجديد)
صورة لشهداء عائلة حلاوة، مجازر مخيم جباليا (العربي الجديد)

استجمع عبد الله قواه رغم إصابته، وحاول مساعدة رجال الإسعاف والجيران في نقل المصابين، وإرشادهم إلى أماكن جلوس العائلة، ولكن حين وجد جثة والده سقط مغشياً عليه. يُكمل عبد الله: "أخبروني بأنني أصبت بحالة هستيرية، أعطوني مهدئاً في المشفى، أذكر أنني استيقظت بعد أسبوعين من الصدمة والإرهاق الجسدي".

أبناء الحي دفنوا جميع ضحايا عائلة حلاوة في أربعة قبور متصلة في مقبرة بيت لاهيا، ولحسن الحظ أن طواقم آليات الدفاع المدني في الأسابيع الأولى من الإبادة كانت جيدة ولم تتعرض للاستهدافات، لذلك كان من السهل عليهم استخراج جميع الجثث.

بعدما تعافى عبد الله بشكل تدريجي، أخذ ابنة عمه الناجية الوحيدة، ونزح إلى جنوب القطاع، لكن تعرّض لصدمة ثانية في مايو 2024، حين جاء خبر ارتقاء ابن عمه أحمد، الناجي الوحيد من عائلة عمه عاطف، وكان ذلك في الاجتياح الثاني أو الثالث لمخيم جباليا، ثم جاء الخبر الثاني باعتقال رجل المرور محمود وحتى اللحظة مصيره مجهول.

مع وقف الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة على غزة، عاد عبد الله إلى منزله في المخيم، لكنه وجد مكان المنزل أرضاً قاحلة بعد ما جرفته الآليات العسكرية التي تمركزت لمئة يوماً في مخيم جباليا أثناء الحملة العسكرية التي انتهت في منتصف يناير المنصرم من العام الجاري، ما جعله يسعى خلال هذه الأيام للبحث عن أدوات من الخشب والأقمشة لتشييد خيمة صغيرة فوق منزله الذي أصبح أرضاً فارغة مملؤة بالذكريات بالنسبة لعبد الله، منتظراً الإفراج عن ابن عمه محمود، عسى أن يجد أحداً من بني جلدته يواسيه في وحدته وقهره.

يختم عبد الله حديثه في رسالة نصية أرسلها لي: "لا أعلم ما هي الحكمة من البقاء حياً لوحدي أو نجاتي من تلك الليلة، ولكن، سأبقى على عهد جدي وعائلتي، بأن أكون رجلاً صالحاً وأن أتمسك بمهنة بيع الفواكه والخضروات، فهذا إرث عائلي سأحافظ عليه".

المساهمون