مجازر مخيم جباليا| حكاية والدي الشهيد خليل أبو الطرابيش (29)

18 فبراير 2025
الشهيد خليل أبو الطرابيش رفقة ابنه حمزة وبعض أفراد أسرته (العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي الكاتب قصص الشهداء والناجين من مجازر الجيش الإسرائيلي في مخيم جباليا، مسلطًا الضوء على معاناة الأهالي، ومن بينهم والده الشهيد خليل أبو الطرابيش، الذي كان رمزًا للمقاومة ورفض مغادرة منزله خلال الاجتياح الثاني للمخيم.
- كان خليل أبو الطرابيش شخصية مؤثرة، حيث عُرف بمواقفه الفكرية والسياسية، واهتم بتربية أبنائه على القيم والوعي، معتبراً ابنه مشروعه الخاص.
- بعد وفاة والده، بدأ الكاتب في توثيق مجازر مخيم جباليا، مستلهمًا من نصائح والده، بهدف حفظ ذاكرة الشهداء والناجين.

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء بالكتابة عنهم، ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمنزلة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجل المدني، وناجين عاشوا وتحملوا كل أنواع القهر.


في السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، هاتفت والدي خليل أبو الطرابيش عند الساعة 6:47 صباحا، دامت المكالمة بيننا 25 ثانية، بادرته بالسؤال عن الوضع في مخيم جباليا، فأجاب بعد أن استسلم لضحكة مدوية: "خلصت إسرائيل...هذه معركة الروح والقلب. المهم يا حمزة، حاول أن تتقي الله وين ما تكون، واحرص على أمك وإخوتك..." ثم انقطع الاتصال.
كانت هذه المرة الأخيرة التي سمعت فيها صوت والدي، قبل أن يرتقي شهيدا في الخامس عشر من مايو/أيار 2024، رافضا الخروج من منزله إبان الاجتياح الثاني لمخيم جباليا في بداية مايو. كان أول شهيد من عائلة أبو الطرابيش التي ارتقى منها 25 شهيدا خلال الحملات المتكررة على مخيم جباليا طيلة الإبادة الجماعية على قطاع غزة التي امتدت لأكثر من 500 يوم.
والدي الشهيد خليل أبو الطرابيش (63 عاما)، يُلقّب في المخيم بالمفكر ومربي الأجيال، أفنى عمره في قراءة الكتب السياسية والدينية، ولديه قدرة عالية على التحليل السياسي، رغم أنه لم يكمل المرحلة الابتدائية. كان يؤمن بزوال إسرائيل، وحين قصفت المقاومة الفلسطينية تل أبيب في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2012، كتب قصاصة جاء فيها "زوال إسرائيل عام 2025، التوقيع أبو حمزة"، وما زالت أمي تحتفظ بهذه الورقة في محفظتها.
تربى والدي يتيم الأب في بلوك "7" في مخيم جباليا، كان أصغر إخوته السبعة، عاش ظروفا صعبة وفقرا شديدا. وفي مرحلة المراهقة، أفرغ طاقته في ممارسة الرياضة، إذ كان أشهر لاعبي كرة الطائرة في جيله، وأكسبه رفع الأثقال بنية جسمانية قوية.
تزوج من أمي فايزة في إبريل/نيسان عام 1985، وأنجب ثمانية أبناء، أنا البِكر، اختار لنا الأسماء بعناية، وكل اسم لديه حكاية.
عمل في مهنة البناء، ومع اندلاع انتفاضة الأقصى، توقف عن العمل بعد الإغلاقات الأمنية ومنع الجيش الإسرائيلي العاملين في غزة من دخول الأراضي المحتلة. تعطل عن العمل قرابة خمسة أعوام، وفي عام 2005، عيّن رجل أمن في قسم الاستقبال في مشفى تابع لوزارة الصحة، وبقي على رأس عمله إلى أن ارتقى شهيدا.
كان والدي جدياً ودائما ما يردّد عبارة "لا وقت للوقت"، يتمتع بفصاحة اللسان وحسن الخطاب في الجلسات العائلية ومع الجيران والأصدقاء، كان غالبا ما يحول الحوار إلى مناقشة سياسية أو يقدم وجبة دينية أو معلوماتية.
في مواجهة المحتل، آمن أن أول شروط زوال إسرائيل، أن يتحلى الشعب بالوعي والقيم الأخلاقية، فالاستعمار الصهيوني فكري بالدرجة الأولى، لذلك يتطلب وعياً عالياً وقيما أخلاقية تمكن من مواجهته.
كان والدي متابعا جيدا لكرة القدم، ولكن مع ازدياد مسؤولياته وخاصة في بداية الألفية الثانية انقطع عن المتابعة، يشجع منتخب البرازيل، أفضل لاعب بالنسبة له، هو اللاعب البرازيلي "سقراط"، صانع الألعاب لمنتخب البرازيل في نهاية السبعينيات. والسبب في اختياره للاعب سقراط، هو أن الأخير كان يحمل شخصيات متعددة بجانب أنه لاعب كرة قدم، فقد كان طبيب أطفال وشخصية سياسية. كما كان يحب أن يتابع رياضة الملاكمة، وبطله المفضل مايك تايسون.
صحيح أن شخصية والدي صلبة، لكن يخبئ عطفاً كبيراً ومشاعر دافقة؛ في مرة خلال ترتيبه لشجرة الجوافة التي زرعها قبل ربع قرن، كسر إحدى الأغصان في يديه، فذرف الدموع لأجلها. كان يقول إن الأشجار تشعر بنا ونشعر بها؛ إنها واحدة من أفراد الأسرة. يحب "الشاورما" وأكلة "المقلوبة" وسلطة الباذنجان، والفاكهة المفضلة لديه هي التفاح، ويشرب كثيرا المشروبات الغازية الخالية من السكر. لونه المفضل الأسود، وقد ارتقى بقميص لونه أسود.


مشروعه الخاص

كان والدي يخبرني في صغري أني مشروعه الخاص، لم أكن أفهم ما يعنيه، لكنني لاحقا فهمت قصده. لقد اهتم بكل مراحلي العمرية، وكان يضع برنامجا خاصا وفقا لفهمه وخبرته في الحياة، رعاني بعناية وبدقة تامة. واهتم بي جسدياً ونفسياً وروحياً.
حين كنت في الرابعة من عمري، علّمني جدول الضرب والقسمة والطرح، حتى أنني وصلت لضرب الأعداد الكبيرة. وبعد ما شعر بتمكني في مادة الرياضيات، سجلني في دورة في نهاية التسعينيات تتمحور حول أساسيات عمل أجهزة الحاسوب، أذكر أن الدورة كانت مدتها شهرا، ودفع والدي قرابة 300 دولار مقابل ذلك. في سن السابعة، أرسلني لتعلم وحفظ القرآن، كان يتمنى أن أحفظ كتاب الله في سن مبكرة، لكن فشلت ولم أحقق حلمه.

الشهيد خليل أبو الطرابيش رفقة ابنه حمزة (العربي الجديد)
الشهيد خليل أبو الطرابيش رفقة ابنه حمزة (العربي الجديد)

كان يحب السير كثيرا وخاصة على شاطئ البحر، كان يأخذني معه بشكل شبه يومي، نمشي أكثر من ثلاث ساعات، طوال تلك المدة، كان يجيب عن أسئلتي الكثيرة ويدفعني إلى تأمل الكون. ثم بعدها انتقل إلى قصّ قصص الأنبياء وأذكر أن قصة سيدنا موسى استغرقت معي أكثر من أسبوعين، كان يقول لي لا تتعامل مع قصص الأنبياء على أنها قصص، بل كدروس وعبر. في الحقيقة لم أفهم قصده في ذلك الوقت، وفهمته لاحقا بعد 20 عاما.


المدرب الرياضي ومدرس الخط

بدأت تظهر شخصيتي المعززة بخبرة والدي في سن المراهقة، فصديقي الأول في حياتي كان أبي. حين أصبح عمري 12 عاما، أرسلني لنادي خدمات جباليا للعب رياضة الكونغ فو، وتحت إشراف مدحت اليازجي، بطل قطاع غزة لهذه اللعبة. كما خصص لي والدي زاوية في المنزل لكيس الملاكمة. كان هدفه من ممارسة هذه الألعاب تقوية شخصيتي، وتعلم مهارة الدفاع عن النفس.
بعد عامين، تركت الألعاب القتالية، وركزت على ممارسة كرة القدم، خاصة أنني لعبت في أحد الأندية في سن مبكرة، لكن والدي كان يرفض هذا التوجه بشكل شديد، الأمر الذي كان يدخلني معه في نزاع متواصل. وبعد شد وجذب استجبت لمطالبه، وامتنعت عن المواصلة في النادي. كان لدي تقوس في ظهري، وقد أخبرني والدي أنه بدلا من ممارسة كرة القدم، علي لعب رياضة كمال الأجسام. وبدأ بنفسه، يتابع معي الحصص التدريبية في صالة الألعاب، وبعد ستة أشهر، ظهر جسدي مفتول العضلات بظهر مرسوم. حين دخلت في مرحلة التوجيهي، كان خطي بشعا جدا، وكان والدي متخوفا من الرسوب في هذه السنة الدراسية لهذا السبب. ومنذ اليوم الأول من تلك السنة، كان يخصص لي ساعة يوميا لكتابة صفحة من القرآن الكريم، وقد تحسن خطي خلال شهرين تقريبا، وحصلت على معدل جيد جدا في تلك السنة.


المرحلة الجامعية والعمل

أيقن الشهيد خليل أبو الطرابيش أن تحرير فلسطين مشروط بتقديم كل فرد فيها ما عنده، والاجتهاد في مجاله، وأن يرفع مستوى وعيه على كافة الأصعدة. لم يكن لديّ خطة واضحة في اختيار تخصصي الجامعي، اختار لي أبي تخصص "الشريعة والقانون" في الجامعة الإسلامية، إذ كان لديه تصور أن هذا التخصص قد يفسح لي مجالا في أن أكون أكثر وعيا وقد أعكسه في يوم ما على محيطي.
في الحقيقة كنت رافضا للفكرة، وبعد عام من الدراسة، حوّلت تخصصي إلى الصحافة،  ورغم أنه كان منزعجاً،  إلا أنه سرعان ما بدأ يحضر لي الكتب التاريخية للقضية الفلسطينية، وكان يناقشني في محطات التاريخ.

أصبحت أكثر شغفا للاطلاع، وقرأت معظم الكتب التي أحضرها لي والدي، ودخلت سوق العمل مبكرا، وكنت أعرض عليه جميع مقالاتي الإنسانية والسياسية قبل نشرها، وكان يصحح لي الأخطاء والمعلومات. حين أصبح عمري 25 عاما، كنت قد أصبحت أكثر نضجا في الكتابة والوعي السياسي، خصص لي أبي جلسة أسبوعية نستعرض فيها أهم أخبار الأسبوع، وكان يحاول أن يرسم  معي سيناريوهات المرحلة المقبلة.


توأم الروح


تزوجت وأنجبت طفلين، وعشت في منزل بعيد عن والدي، هنا بدأت علاقتي تأخذ منحى مختلفاً معه. قال لي مرة: "أنت الآن في مرحلة يجب أن تواجه نفسك وتُطهرها، وتعالج نقاط ضعفك وتعزّز نقاط قوتك حتى يستفيد منك مجتمعك". وأخبرني عن أول خطوة وهي نزع ذرة الكبر، وأن أكون رحيما بمن حولي.
تدرّج والدي في تربيتي من طفولتي، من ناحية الوعي ثم تقويم الجسد والعلم، وجاءت مرحلة ضبط النفس، كان يرى والدي أن ضبط النفس والتحكم في المشاعر وتعزيز الأخلاق هي ما أحتاجه في تلك المرحلة. أصبحنا نجلس مع بعضنا لمدة ساعات متواصلة دون أن يتكلم أحد فينا. كانت النظرة كافية لفهم مقصده.

خليل أبو الطرابيش خلال إسعافه (العربي الجديد)
خليل أبو الطرابيش خلال إسعافه (العربي الجديد)

قال لي ذات مرة، "لقد نجحت في مشروعي الخاص، الآن أنت لست ولدي، أنت توأم روحي؛ يجب عليك أن تسافر لاكتساب المهارات ولتطوير شخصيتك". وهذا ما حصل.
انقطعت عن الكتابة لمدة طويلة، في إحدى ليالي الإبادة وتحديدا حين مسحت إسرائيل ما تبقى من حارتي في أكتوبر الماضي أي بعد رحيل والدي بخمسة أشهر تقريبا، نمت بعد ما أحرقت الدموع وجهي، جاءني أبي في المنام وقال لي حرفيا: "هناك ألف مقاتل في مخيم جباليا وكاتب واحد".
استيقظت على وقع هذه العبارة. التقطت الإشارة وباشرت الكتابة، وقد تكون هذه المجموعة التوثيقية للمجازر التي وقعت بحق جيراني وأهلي هي البداية وقد رصدت تقريبا 30 مجزرة، لعل وعسى أن يرضى عني أبي.

المساهمون