استمع إلى الملخص
- العم محمود، المعروف بأبو مصطفى، كان شخصية عصامية عمل كسائق أجرة، وعاش مع عائلته الكبيرة في منزل متعدد الطوابق، حيث تميز بصمته وهدوئه الذي أخفى شخصية قوية.
- في أكتوبر 2024، ارتكبت إسرائيل مذبحة في مخيم جباليا، استشهد فيها العم محمود وأفراد عائلته، وتم تدمير بلوك "7" بالكامل، مما زاد من حزن الناجين.
لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء بالكتابة عنهم، ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمنزلة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجل المدني، وناجين عاشوا وتحملوا كل أنواع القهر.
العمّ محمود عقل (63 عاما)، جارنا في "بلوك 7" الواقع في مخيم جباليا، منزله المكون من طابقين غير الأرضي يبعد عن منزلنا مسافة ذراع، وتحيطنا عدة منازل تعود لعائلة عقل التي تنحدر أصولها من بلدة برير المحتلة. يتقاسم الجار محمود مع والدي الكثير من الصفات والنقاط، من بينها أنهما وُلدا في العام نفسه، وتربيا يتيمين، كما ضحيا بأنفسهما من أجل فكرة التشبث بأرضهم والفكرة لن تموت.
في التوزيع العائلي لمنزل محمود، في الطابق الأرضي، يعيش العم مع زوجته آمال (63 عاما)، وابنه إبراهيم (30 عاما)، وابنه نصر (33 عاما) وزوجته وطفلته، أما الطابق الأول فيقطنه الابن الكبير مصطفى (39 عاما) مع زوجته هناء وأطفالهما الأربعة. فيما ينقسم الطابق الثاني، إلى شقتين صغيرتين، واحدة لمحمد وزوجته وطفلتيه، والأخرى لعبد الله وزوجته وأطفاله الثلاثة.
العم محمود المكنى بـ"أبو مصطفى" وزوجته، يصنفان في حارتنا على أنهما زوجان عصاميان، فبعدما أغلق العمل داخل الأراض المحتلة بالنسبة للفلسطينيين في غزة في بداية الانتفاضة الثانية، لم يقف الرجل مكتوف الأيدي، بل استدان مبلغاً مالياً، واشترى مركبة للعمل سائق أجرة.
طيلة عشرين عاما، لم يغير أبو مصطفى روتينه في العمل، لم نلحظ عليه يوما أنه أعطى لنفسه قسطا من الراحة، قبل شروق الشمس يخرج للعمل وبعد غروبها بساعتين يعود إلى النوم. كان عبارة عن آلة عمل، غطى ديون المركبة، ثم استكمل بناء المنزل وكان من أجمل منازل الحي، وأخيرا زوج أبناءه الأربعة ووضع كل واحد فيهم في شقة.
هناك صفة مشتركة يتمتع بها أفراد عائلة عقل، أنهم "حكاءون" يصنعون من لا شيء حكاية في مجالسهم، لكن العم محمود يكاد يكون الشخص الوحيد المختلف عنهم، فمن خلال معرفتي به، أعتقد أنه يستطيع أن يبقى صامتا طوال عام كامل دون أن ينبس ببنت شفة، لكنه كان يخفي خلف هذا الهدوء والصمت شخصية حديدية صلدة، ظهرت في اجتياح الجيش الإسرائيلي مخيم جباليا في منتصف مايو/أيار 2024.
في اللحظة التي انهالت القذائف على مخيم جباليا، نزح جميع سكان الحي بشكل داخلي واتجهوا إلى أطراف المخيم، باستثناء والدي والعم محمود. كانا قد اتفقا على فكرة أنه، "لن يسجل على مخيم جباليا أنه جرى تفريغه بشكل كامل، يكفي شخص ثابت في منزله لضمان كسر هذه المعادلة الإسرائيلية".
في اليوم التالي من الهجمة، استشهد والدي بصاروخ من طائرة مسيرة داخل باحة المنزل، بعدما انهالت مئات القذائف على الحي الذي يحتمي فيه والعم محمود. ولن أنسى مقطعاً مصوراً التقطته كاميرا كانت مثبته على صدر أحد المسعفين، الذين أخرجوا والدي من المنزل، أن العم أبو مصطفى بقي مع والدي وهو محمول إلى بوابة الإسعاف، ثم عاد أدراجه إلى منزله. استمرت تلك الحملة قرابة أسبوعين، وسجل التاريخ أن العم محمود هو الشخص الوحيد الذي صمد في بلوك "7"، رغم آلاف القذائف وعشرات الأحزمة النارية، وقد خرج حيا سالما ولم يصب بخدش، باستثناء أنه كان جائعا وعطشان.
خلال الحملة الأخيرة على مخيم جباليا والتي كانت في بداية أكتوبر/تشرين الأول من عام 2024، رفض أبناء العم محمود أن يواجه إسرائيل هذه المرة وحيدا واحتموا معه في ذلك المنزل. أكثرهم إصرارا كان أصغرهم إبراهيم، في بداية الحملة العسكرية على مخيم جباليا ومناطق شمال قطاع غزة، أخبرني وهو وسط الحمم النارية في محادثة كتابية أن شعورا غريبا يسيطر عليه وعلى أبناء المخيم، يقضي بعدم الخروج من المنزل هذه المرة، أذكر أنه قال لي: "على الموت يا جار (..) مش طالعين".
إبراهيم الكثير الضحك منذ فترة الإبادة، أطعم أغلب أبناء مخيم جباليا، كان يواصل الليل والنهار في العمل داخل مطعم، كان طاهيا محترفا، يقدم الطعام للفقراء والجائعين. أكمل إبراهيم حديثه: "أنا مرتاح يا جار، وجاهز لمقابلة ربي؛ أشعر بأنني أنجزت المهمة المطلوبة مني، وهي الطبخ".
في مشهد آخر، احتمت في منزل العم أبو مصطفى، شقيقته فيروز وابنها محمد، علما أن فيروز استشهد زوجها في بداية الحرب. بالنسبة للعمة فيروز (60 عاما)، امرأة عفوية تتمتع بطاقة شفاء عالية، كل نساء الحي يتمنون أن تأتي فيروز لبيوتهن دوما. يقال عنها بين أوساط نساء الحي إنها "مستجابة الدعوة".
في البيت الملاصق لهم، كانت شقيقتهم هنية (73 عاما) التي تكنى بأم طلعت، هي وأولادها وأحفادها، وعددهم تقريبا 20 شخصا. كل صغار المخيم تقريبا، مروا على أم طلعت، فهي تعد أكثر سيدات المخيم شهرة بـ "قطع الخوفة"، تشبه طاقة الشفاء التي تتمتع بها أختها فيروز.
في ليلة 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، أي في الأسبوع الثالث من الحملة العسكرية الإسرائيلية على مخيم جباليا، ارتكبت إسرائيل مذبحة في حارتي، حين نفذت حزاماً نارياً، أحد الصواريخ الثقيلة سقط على منزل عائلة عقل. استشهد العم محمود والطباخ إبراهيم والعمة فيروز والعمة أم طلعت، وزوجة محمد وطفلته وأصيب من تبقى. ولعدم وجود سيارات إسعاف ومع استهداف الطائرات الإسرائيلية كل شيء متحرك، فإنه بصعوبة جرى نقل المصابين إلى مستشفى كمال عدوان، وتُركت جثامين الشهداء في الحفر التي خلفتها تلك القنابل.
يقدر عدد الشهداء الذين ارتقوا في تلك الهجمة بحوالي 100 شخص، وجميعهم لم يجر انتشالهم وخاصة عائلة أبو راشد، التي اختلطت أجسادهم بالحجارة. مُسح بلوك "7"، خلال عام على دفعتين، تقريبا 25 منزلا من عوائل مختلفة، متوسط كل عائلة ثمانية أفراد، لم ينج تقريبا من 200 شخص سوى 30.
حين انتهت الحملة في منتصف يناير/كانون الثاني من العام الجاري، والتوصل لاتفاق وقف إطلاق نار برعاية دولية، تفاجأ من تبقى من سكان الحي أن الآليات العسكرية كانت قد جرفت الحي بالكامل بعد تدميره وحولته إلى تجمع عسكري، وحين باشروا البحث عن الجثث، وجدوا بقايا عظام فقط.
أخبرني ناجون من المجزرة، أنهم لا يفعلون شيئاً سوى البكاء. وفي غمرة الحزن والألم استحضرت مقولة للروائي عبد الرحمن منيف وملخصها: "الناس فقدوا القدرة حتى على البُكاء، إنّهم يبكون بدموعٍ تتساقط إلى الدّاخل، إنّهم يبكون كلّ الوقت، حتّى أثناء النّوم".