استمع إلى الملخص
- في أكتوبر 2023، تعرض منزل عائلة سالم لقصف إسرائيلي أدى إلى مقتل معظم أفراد العائلة، واستهدفت الغارات عشرة منازل في الحي، مما أسفر عن مقتل نحو 100 شخص.
- بعد شهر، قُتل سعيد الشقيق الأكبر لعائلة سالم في غارة أخرى، ولم يبقَ من العائلة سوى موسى وزوجته وطفليه وابن شقيقه المصاب.
قبل عشر سنوات دخل الحزن إلى سكان كل منزل في البلوك 7 بمخيم جباليا في قطاع غزة، إثر وفاة الجار محمد سالم (44 عاماً) وزوجته عُلا (38 عاماً) بشكل مفاجئ. حينها بكيت مع الصغار والكبار عليهما، واغتسلنا جميعاً بالدموع على الحادث المؤسف.
كان محمد طويل القامة توحي رائحة عطره المميزة بأنه قادم من عشرات الأمتار، وكان يعمل موظفاً في إحدى الدوائر الحكومية، أمّا زوجته فهادئة وخجولة جداً ومنطوية على نفسها.
وما زاد من ألم قصة رحيل الوالدين أنهما تركا سبعة أطفال؛ إيمان وضحى وحسن وحسام وأيمن وكريم ويحيى، كانت أكبرهم إيمان في سن الـ17 وأصغرهم يحيى في سن الرابعة. عاملهم سكان الحي باهتمام، ونالوا عطف جميع نساء ورجال الحي، علماً أنهم كانوا هادئين جداً.
صادق أيمن تحديداً حين كان في سن التاسعة شقيقي الصغير عبد الله، وأصبح لاحقاً أحد أفراد العائلة، ونظرنا إلى أيمن كأنه توأم شقيقي الصغير، وعاملَته أمي على أنه ابنها الرابع، ووالدي على أنه صديقه الصغير وابنه، وكان غيابه عن المنزل يوماً واحداً يعني أن هناك شيئاً ناقصاً. هذا تعريف بسيط لعلاقة أيمن بعائلتي. كان يشبه والده من ناحية الطول، ووجه أمه الهادئ البسيط، ورغم أنه نشأ يتيماً لكنه كان يبتسم دائماً ويحاور الجميع وأفكاره رزينة، وهو عاش مع أخوته الستة في الطابق الأخير من منزل تضمّن ثلاثة طوابق، وجميعهم اعتمدوا على أنفسهم خلال السنوات العشر الأخيرة، وأنهى بعضهم التعليم الجامعي فيما عمل آخرون في مجالات حرفية مختلفة.
عوضت ضحى وإيمان غياب أمهما وتحملتا الأعباء والضغوط من دون أن يمنع ذلك حصولهما على شهادة جامعية في تخصّص التعليم الأساسي، وعمل حسن وحسام في مهن حرفية مختلفة، وباشر أيمن دراسته الجامعية.
كان الطابق الثاني من مبنى عائلة سالم في البلوك 7 مقسّماً إلى شقتين، ضمت إحداهما عمَّ الأطفال السبعة زياد وزوجته نداء وأطفالهما الثلاثة؛ سعيد وغزل وإسلام، أمّا الثانية فضمّت شقيقه عامر وزوجته فداء وطفلهما محمد، وفي الطابق الأول من المبنى عاش شقيقهم موسى وزوجته سمر وطفلاهما حسن ومحمد، أمّا في الطابق الأرضي فعاشت أمهم غالية وجدتهم فضة.
ومع بداية الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، احتمى في المنزل أقارب لعائلة سالم، وبينهم من عائلة أبو الجديان، وبلغ عددهم نحو 40 فرداً. وعند الساعة العاشرة والنصف ليلةَ الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، نفذت طائرت حربية إسرائيلية ضرباتٍ جوية متلاحقة شكّلت حزاماً نارياً على الشقّ الشمالي من البلوك 7، وأطلق صاروخ بزنة طن على مبنى عائلة سالم، وقتل جميع من كانوا فيه باستثناء خمسة هم؛ موسى وزوجته وطفلاه، ومحمد بن عامر، وقتل في تلك اللحظة نحو 100 شخصٍ بعدما استهدفت إسرائيل عشرة منازل في الحي، وكان نصف عدد الشهداء داخل منزل عائلة سالم.
وبسبب صعوبة الحركة بين الأزقة وإغلاق الركام الطرقَ الصغيرة المؤدية إلى منزل عائلة سالم وباقي المنازل المستهدَفة، عمل رجال طواقم الدفاع المدني أسبوعين وبأدوات بسيطة لاستخراج الجثث، وكانت أولاها لأيمن وبَدَت مكتملة نوعاً ما، ثم عثر لاحقاً على جثامين إخوته، ودفنوا في قبر واحد، وأيضاً على جثامين زياد وعامر وزوجتيهما، أما من كانوا في الطابق الأرضي من نازحين أقارب فلم يُعثر عليهم.
وبعد شهر من المذبحة قتلت إسرائيل سعيد الشقيق الأكبر لعائلة سالم، مع زوجته هالة وأبنائهما الثلاثة؛ الممرضة ملك ولمى ومحمد الذي كان يدرس الهندسة، بغارة في منطقة الفالوجا بمخيم جباليا. وللحفاظ على نسل العائلة لم يجد موسى إلا النزوح مع مَن تبقى مِن العائلة، فاصطحبَ زوجته وطفليه وابن شقيقه المصاب الطفل محمد بن عامر إلى جنوب القطاع، لكن هذا لم يفلح، فقبل شهرين من التوصل لوقف إطلاق النار قتِل الطفل حسن بن موسى في غارة استهدفت خيام النازحين.
يقول موسى: "شطبتنا إسرائيل من السجل المدني بعدما لاحقتنا في كل مكان، نحن أناس مدنيون لا نتبع أي فصيل ولا نعلم سبب قتلنا بهذه الطريقة وبهذه السرعة. كلّ شخص في عائلتي كانت لديه أحلامه وحياته الخاصة، ولا أزال لا أصدق أن عدد أفراد عائلتنا أصبح أربعة بعدما كان 40 شخصاً". وكل ما يحاول أن يفعله موسى هذه الأيام إلى جانب رعاية ابن شقيقه المصاب، هو البقاء في حالة ذهنية جيدة، يقول: "حلمي الآن أن أسيطر على نفسي كي لا أصاب بالجنون، هذا أقصى طموحي في هذه الدنيا".
وشهد بلوك 7 في مخيم جباليا إحدى أكبر المجازر التي ارتكبتها إسرائيل خلال الإبادة، إلى جانب مذبحة البلوك 6 في حي السنايدة، واحتضن مذبحتين خلفتا 200 شهيدٍ، وقد تبخر غالبيتهم في منازلهم، ولم يعثر على جثامينهم باستثناء بقايا عظام لا يُعرفُ صاحبُها. هؤلاء السكان عاشوا أكثر من 50 عاماً في ذلك الحي كعائلة كبيرة مقسّمة على عدة منازل، وقد جرى شطب حي سكني مدني بالكامل، ولا يتجاوز عدد من نجوا عشرين شخصاً، يحمل كل واحد منهم ذكريات خاصة عن أهالي الحي الذين أصبحوا شيئاً من الماضي. ولم يلتقط أحد صوراً أو مقطع فيديو يوثق الجرائم الإسرائيلية في الحي، لكن هذا لا يعني أن حكاياتهم انتهت بموتهم، فقد يكون هذا النص بداية لتخليد ذكراهم.