مجازر حتى النفس الأخير... إبادة غزة تتواصل رغم إعلان الاتفاق

17 يناير 2025
تشييع الشهداء يتواصل في غزة، 17 يناير 2025 (عبد الرحيم الخطيب/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- استمرار القصف الإسرائيلي في غزة بعد إعلان وقف إطلاق النار أودى بحياة العديد من العائلات، مثل عائلة شقورة، مما دمر آمال الأهالي في العودة إلى منازلهم.

- قصص الشهداء مثل نجاة وفاتن شقورة، وأحمد الشياح، وأحمد أبو الروس، تعكس حجم المأساة التي يعيشها سكان غزة، حيث فقد الكثيرون حياتهم في لحظات كانت من المفترض أن تكون مليئة بالأمل.

- قصة جيهان سعد التي فقدت ابنها محمد توضح الألم المستمر في غزة، وتبرز الحاجة الملحة لتحقيق سلام دائم وعادل.

لم تكتمل فرحة أهالي قطاع غزة بإعلان التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، رغم أنها لحظة طال انتظارها في أنحاء القطاع الذي يتعرض للإبادة الجماعية، فجيش الاحتلال ما زال يواصل القتل والتدمير.

أثناء فرحة عارمة غمرت سكان قطاع غزة المنكوب بإعلان التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وهي فرحة مصحوبة بتهليل وتكبير ومسيرات عفوية شهدتها الشوارع ومراكز الإيواء، كانت عناصر الإسعاف تنقل المصابين والشهداء، إذ صعّد الاحتلال من وتيرة قصفه لمناطق مختلفة، وارتكب عدة مجازر أدت إلى مسح مزيد من العائلات الفلسطينية من السجل المدني.
فور إعلان قرب التوصل إلى اتفاق، بدأت عائلة شقورة النازحة إلى مدينة دير البلح في وسط القطاع الترتيب للعودة إلى منزلها شبه المدمر في بلدة بيت لاهيا (شمال)، لكن صاروخاً إسرائيلياً أصابهم مساء الثلاثاء الماضي، ليبدد الأحلام والآمال، وبدلاً من العودة إلى شمالي غزة، يتغير المسار نحو قبر جماعي.
استشهد في المجزرة الجد رمضان عيد شقورة، وابنته نجاة التي نزحت معه، فيما بقي زوجها في شمال القطاع، كما استشهدت فاتن رمضان شقورة، وأطفالها محمد وأحمد وهلا وصبا رأفت صالحة، واستشهد محمد عيد شقورة، وماهر عيد شقورة وزوجته سميرة، ومحمد وسارة شقورة، بينما نجت شقيقتهم جودي التي يبلغ عمرها بضعة أشهر وأصيب والداهما.
قبل ساعات من المجزرة، كان عيد شقورة يتحدث إلى والده عن اقتراب لحظة العودة المنتظرة ولمّ الشمل، ليصدم بعد ساعات بفقد أفراد العائلة. في مشهد الوداع، احتضنت زوجته جثمان طفلها محمد، تضمه بقوة إلى قلبها المكلوم الذي لم يستوعب الفاجعة بعدما كان الفرح يدق الطبول داخلها.
يقول عيد شقورة لـ "العربي الجديد": "كانت لدينا جرعة تفاؤل كبيرة، وبدأنا التجهيز مع اقتراب قرار العودة. الشهداء كبار في السن ومقعدون ونساء وأطفال، فأبي رمضان شقورة عمره يناهز السبعين سنة، وعمي ماهر مقعد، وبينهم طفلي محمد. قتل الاحتلال فرحتهم بعدما تحملنا 465 يوماً من التشرد والنزوح".

مجازر الاحتلال الجديدة مسحت مزيداً من العائلات الفلسطينية من السجل المدني

وقضت الحرب على حلم نجاة شقورة بلقاء زوجها في شمالي القطاع، يقول: "كانت تنتظر إعلان وقف الحرب بفارغ الصبر بعد عام من البعد عن زوجها، وكانت دائماً تشعر بطول مدة الغياب، ونفس الحال كان زوجها يشعر به. لكن سبقت الشهادة اللقاء".
وكتب زوجها عبد الحليم على "فيسبوك": "زوجتي الحبيبة التي لم أرها منذ عام ونصف. بعد فراقك عرفت جيداً معنى دعاء (جبر الله كسر قلبك). قلبي حزين لفراقك، لكني لن أنسى الإيمان بقضاء الله وقدره".
كانت فاتن شقورة آخر الشهداء الذين جرى انتشال جثامينهم بعد استشهاد جميع أطفالها وزوجها الحقوقي العامل بالهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، رأفت صالحة. يقول شقيقها عيد: "رغم نزوحها إلى مدينة دير البلح، لم تتخلَ عن دورها في علاج المصابين، كنا نراها تذهب إلى مستشفى العودة في مخيم النصيرات رغم إرهاق المواصلات، كي تمارس عملها في علاج المصابين والمرضى، ولم تتخلَ عن دورها الإنساني أبداً، وأحياناً كانت تعود متأخرة من العمل، خاصة في نهار فصل الشتاء القصير".

عائلات شهداء في خانيونس.17 يناير 2024 (عبد الرحيم/الخطيب/الأناضول)
عائلات شهداء في خانيونس.17 يناير 2024 (عبد الرحيم/الخطيب/الأناضول)

وتمثل قصة عائلة شقورة واحدة من عدة مجازر وقعت مساء الثلاثاء الماضي، واستشهد خلالها أكثر من 100 مواطن، من بينهم 27 طفلاً، حسب إحصائية لجهاز الدفاع المدني في غزة. وتفاعل كثيرون بحزن كبير مع استشهاد الأسير المحرر علي المغربي، والذي أبعد عن الضفة الغربية إلى قطاع غزة بعد صفقة "وفاء الأحرار" الأولى، واستشهد مساء الثلاثاء الماضي، بقصف تكية خيرية غربي مدينة خانيونس، واستذكروا دوره الإنساني والإغاثي. كما تفاعل كثيرون مع استشهاد الصحافي أحمد الشياح، والذي تخصص في إنتاج قصص وتقارير وثائقية حول الإبادة، وكان ينتظر العودة إلى منزله في حي الشجاعية بمدينة غزة. يقول صديقه أحمد العكلوك: "بينما كنا ننتظر إعلان وقف الحرب لنطلق دموع الفرح، إذا بنا نطلقها حزنا على أحمد".
واستشهد أحمد أبو الروس، وهو أحد أشهر المؤثرين في قطاع غزة على تطبيق "إنستغرام"، وعرفه مئات الآلاف عبر منصات التواصل الاجتماعي، وقد استشهد معه شقيقه بقصف طاول سيارتهما في مخيم النصيرات.
كانت الفلسطينية غدير علوش من مدينة غزة تعيش فرحة بعيد إعلان اتفاق وقف إطلاق النار، وهي تتابع الأخبار، وتشاهد صوراً تظهر فرحة أهالي القطاع، ليقفز إلى شاشة الهاتف خبر استهداف منزل عمها عزمي علوش، والذي كان يؤوي 40 نازحاً.
لدقائق انشغلت علوش ووالدتها بالاتصال بهواتف أبناء عمها لمعرفة مصيرهم، على أمل أن يكون الاستهداف بعيداً عنهم، أو بسماع خبر نجاتهم، ولم تتوقع تعرضهم لمجزرة دموية راح ضحيتها أكثر من 20 شهيداً؛ من بينهم عمها عزمي، وزوجته، وابنه طه وزوجته وأبناؤه، وابنه أحمد وزوجته وأبناؤه، وابنته بشرى وزوجها وأبناؤها، وسوزان علوش وأبناؤها.

أطفال فقدوا عائلاتهم في غزة.17 يناير 2024 (عبد الرحيم/الخطيب/الأناضول)
طفل فقد عائلته في غزة.17 يناير 2024 (عبد الرحيم/الخطيب/الأناضول)

تقول غدير علوش لـ "العربي الجديد": "كان البيت يؤوي نازحين من بينهم الكثير من الأطفال، وكان الجميع على أمل أن تتوقف الحرب، خاصة مع قرب إعلان التوصل إلى اتفاق. لم نكن نتوقع أن الاحتلال سيصعّد من جرائمه، ويستهدف البيوت بهذه الصورة البشعة، خصوصاً أن الجميع التزموا البيوت، وكنا نشعر في مدينة غزة بخوف شديد مع تكرار واقتراب القصف". تضيف: "جمع عمي عزمي، وهو مختار العائلة، جميع أبنائه لحمايتهم من التشرد والنزوح في البيت الذي تآكل بمرور الزمن، لكنه كان قادراً على احتضانهم. قبل يومين فقط، مررت إلى البيت، ورأيت عمي يقف عند الباب، وكان ينتظر قدوم سيارة تعبئة المياه لملء الخزانات بعد نفاد المياه".
بعد بضع ساعات فقط على كتابة جيهان سعد منشوراً على "فيسبوك" حول إعلان وقف إطلاق النار، جاء فيه "معقول خلصت الحرب. الناس تهلل وتكبر في غزة. اللهم فرحة لا حزن بعدها، وهدنة لا حرب بعدها. اللهم ارحم شهداءنا"، جرى استهداف منزلها، فيما كانت تعتقد أن الجراح والأحزان قد توقفت بعد كل ما حدث خلال 465 يوماً من العدوان، ولم تدرِ أنها ستتعرض لجرح جديد في آخر أيام الحرب.
تروي سعد لـ "العربي الجديد": "قرابة الساعة الثالثة وأربعين دقيقة من فجر يوم الخميس، استيقظت على سقوط تراب فوق رؤوسنا، بينما لم نسمع صوت انفجار، كانت شقتنا الواقعة في عمارة سكنية بمنطقة الشعبية بمدينة غزة تحترق، وسرير نومنا يوشك على السقوط في الشارع ونصفه يتدلى للأسفل، فبدأت مع زوجي بالزحف إلى داخل الغرفة التي باتت مطلة على الطريق. كان الصاروخ قد سقط من الأعلى وانفجر بالمكان الذي نام فيه ابني مهندس الحاسوب محمد (21 سنة)، فاستشهد وهو يرفع إصبع السبابة، وبدأت النار بالاشتعال، والتهمت سريري شقيقه كرم (17 سنة) وخالد (13 سنة)".

تكمل بقية التفاصيل: "كان المشهد مرعباً والحريق هائلا، اعتقدت أن أبنائي الثلاثة شهداء بسبب قوة اشتعال النار، لكني وجدت كرم في زاوية المنزل، كما نجا شقيقه خالد، فقمت مع والدهما بإخراجهما من حمم النار الناجمة عن الصاروخ الذي أحرق البيت بالكامل. لم يصدق أحد أن هناك ناجين نتيجة شدة القصف، وقد استشهد أربعة من جيراننا، وهم سيدة تعمل لدى وكالة (أونروا)، وابنتها الطبيبة وابنها المهندس، ولديهم طفلة شهيدة، كما استشهد طفل من أبناء الجيران مختنقاً".
كان نجل جيهان الشهيد محمد يدرس في السنة الثالثة في تخصص هندسة الحاسوب بالكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، وتقول عنه أمه: "رغم صغر سنه كانت أفعاله كبيرة، ويشارك منذ طفولته بدورات (أوائل وقادة)، كما تميز علمياً، وإلى جانب دراسته وطموحه الكبير، كان يساعدني في مشروع متجر بيع (الشوكولاته) وفي أعمال البيت. لم يكن يفكر بالسفر بعد وقف إطلاق النار، بل كان كل همه المشاركة في بناء غزة، واستكمال دراسته الجامعية والانخراط في عجلة بناء المستقبل، لكن كانت الشهادة أقرب من كل شيء كان يخطط له". تضيف أن "مجازر وقف إطلاق النار فتحت جميع الأحزان، فقد تعرضنا لمواقف عديدة كنا فيها جميعاً قريبين من الاستشهاد، إذ عشنا تحت خطر الموت في يوم 15 ديسمبر/ كانون الأول 2023، عندما حاصرتنا قوات ودبابات جيش الاحتلال في شارع اليرموك بمدينة غزة. يومها أطلقوا علينا النار بكثافة لعدة ساعات، وكنا سنستشهد، وعندما وجدونا، جرى تجريد محمد ووالده من ملابسهم، واستخدموهم دروعاً بشرية، واحتجزوهم لمدة يومين. نجونا من الموت مرتين، لكن شاء الله أن يختار محمد شهيداً".

المساهمون