لبنان: عندما تسقط المرأة ضحية العنف الأسري

لبنان: عندما تسقط المرأة ضحية العنف الأسري

06 ديسمبر 2021
كلّ امرأة "ضحيّة محتملة" في مجتمعاتنا (دييغو إيبارا سانشيز/ Getty)
+ الخط -

يُعَدّ العنف ضدّ المرأة من أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان، إذ إن الآثار النفسية والجسدية التي يخلّفها قد تحدّ من طاقة النساء وطموحهنّ وقد تعرّضهنّ إلى موت محتّم أحياناً. في لبنان كذلك، ما زالت النساء يتعرّضنَ إلى العنف بمختلف الطرق. وعندما تُغلق أبواب البيوت ليلاً، قد تتحوّل أيّ امرأة إلى ضحية في ظلّ غياب الحماية اللازمة والقوانين الرادعة الفاعلة والأهمّ الأعراف والتقاليد. وبحسب التقرير السنوي لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" حول الموضوع، فإنّ "النساء والأطفال ما زالوا يواجهون التمييز في ظلّ قوانين طائفية للأحوال الشخصية، وما زال زواج الأطفال والاغتصاب الزوجي مُشرَّعَين". وأضاف أنّ "السلطات اللبنانية لم تفِ بالتزاماتها بحماية النساء والفتيات من العنف وبإنهاء التمييز ضدّهنّ"، الأمر الذي يُعَدّ مؤشّراً إلى مزيد من الضحايا.
وللقهر الذي تتشاركه نساء عديدات حكايات مختلفة، منها حكاية ليال. هي واحدة من ضحايا العنف الأسري، وتشبه كثيرات في ظلّ نظام أبوي يحاول دائماً السيطرة على النساء وتحويلهنّ إلى ضحايا. تقول ليال: "تزوّجت كي أتخلّص من عنف والدي وأخي". هكذا تبدأ حكايتها، مضيفة "كنت في الثامنة عشرة من العمر عندما قرّرت الارتباط بأوّل عريس تقدّم لي. فأنا ابنة قرية نائية لا أفقه شيئا في الحياة. ظنّنت أنّني قد أعيش حياة وردية مع الرجل الذي اخترته، ولم أكن أعلم أنّني سوف أقع ضحية معنّف لا يحمل في قلبه سوى الكراهية والحقد". وتتابع ليال: "بدأت المشكلات تظهر في أوّل أيّام زواجنا، فالغيرة والشكّ سيطرا على عقل زوجي، الذي صار يهينني ويحقّرني حتى وصل به الأمر إلى حدّ خيانتي".
وليال التي لا تخفي أنّها عاشت أحلاماً وصدّقت وعوداً في خلال خطبتها، استفاقت على واقع مليء بالكذب. حلمها بإكمال دراستها كانت يُقابَل بالرفض دائماً، إلى حين انتزعت حقّها بالقوة بعد تدخّل العائلة. لكنّ الثمن كان تعنيفاً لفظياً وتحقيراً، كلّما أرادت الخروج صباحاً من المنزل للذهاب الى الجامعة. هاجسها الوحيد كان ألا تضطر إلى الرضوخ وقبول الواقع، فقط لأنّ لا معيل لها ولا شهادة كما حال كثيرات لا يستطعنَ الرحيل أو رفع الصوت لأنهنّ بلا سند مهما اختلفت طبيعته. وتكمل ليال أنّه "مع مرور الوقت وزيادة القهر والوحدة، صرت أنظر الى المرآة وأرى نفسي عجوزاً. أنا ابنة العشرين عاماً، أكل الحزن وجهي وفقدت شهيّتي للحياة وخسرت كثيراً من وزني. وقد وصل بي اليأس إلى حدّ محاولة الانتحار مرّتَين. ومع هذا لم يرفّ جفنٌ لعائلتي. لم تسعَ إلى إنقاذي، بل مرّت الحادثتان كأنّهما لم تكونا".
وبعد عام من الزواج، رُزقت ليال بطفل. تقول: "حاولت أن أوجّه كلّ عاطفتي واهتمامي إليه، لعلّني أتخطّى الأزمة وتسهل حياتنا، لكنّ الأمر زاد سوءاً. هو لم يتقبّل أنّه أصبح أباً، وقد جعله ذلك يزيد في قهري وتعنيفي واختراع الحجج لإهانتي". استمرّ زواج ليال أربع سنوات، وتؤكد أنّ "كلّ ما مررت به في منزل أهلي كان هيّناً أمام ما تعرّضت إليه في هذا الزواج. لم أرَ يوم راحة منذ دخولي منزله. فالإهانات والضرب والتجريح وطريقته في النقاش لا تُحتمل، وقد وصل الأمر به إلى حدّ الاغتصاب الزوجي مرّات عدّة. وعندما حاولت منعه من الاقتراب مني، راح يطلق الشائعات بأنّني أخونه مع رجل آخر، على الرغم من أنّه هو الذي كان يخونني وبشكل علني". 

تحرك مناهض للعنف ضد المرأة في بيروت في لبنان (باتريك باز/ فرانس برس)
من تحرّك مناهض للعنف ضدّ المرأة في بيروت (باتريك باز/ فرانس برس)

وعن صمتها طوال تلك السنوات، تقول ليال: "لم أستطع إخبار أحد. فكيف لأبي الذي كان يضرب أمّي أمامنا أن ينصفني؟ وعندما شكوت له في إحدى المرّات، ألقى اللوم عليّ وأجبرني على العودة إلى زوجي، ودعاني إلى أن أصبر وأغيّر من نفسي كي أعيش بسلام. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ إبلاغ المرأة عن زوجها أمر منافٍ للعادات والتقاليد، وهو ما لا يمكن تقبّله في المجتمع والقرى. هي قد تُعَدّ ناشز، وتُحارَب من قبل العائلة كلها". وهذا ما حصل بالفعل مع ليال بعد حصولها على الطلاق، وتروي أنّ "أخي الأكبر لم يرحمني ورفع في وجهي السلاح مراراً، وحاول خنق ابني لقتله. لم أنجُ من العنف إلا عندما هربت من بيتي الزوجي وأهلي كلياً".
وفي هذا السياق، تقول رنا غنوي وهي مشرفة تقنية في مجال العمل مع الأطفال المعرّضين إلى الخطر في منظمة "أبعاد"، إنّ "النساء هنّ جزء أساسي من مكوّنات هذا المجتمع وهذه البيئة الشرقية. ومهما شعرت المرأة بأهمية الإفصاح عمّا تتعرّض له، فهي تبقى متأثرة بعادات وتقاليد وأعراف تؤكّد أنّه طالما تبقى المرأة كتومة وصابرة فهي جيّدة وصالحة. ومقياس تربيتها يُقارَن بمدى حفاظها على أسرار منزلها". تضيف غنوي أنّ "في الأرياف تحديداً، ثمّة مقولة مشهورة جداً وهي: عاقلة وما بيطلع صوتا. بالتالي فإنّ هذا الثوب الذي لبسته المرأة في تربيتها ونشأتها صار عرفاً، الأمر الذي يولّد عقبات أمام توصّل المرأة إلى قناعة بضرورة الإفصاح عن العنف.

وثمّة سبب آخر هو عدم معرفة النساء بقانون العنف الأسري الذي يحمي المرأة من العنف بسريّة كاملة وخصوصية. لكن بخلاف ذلك، قد تكون النساء على دراية وعلم بقوانين الحماية، لكنهنّ يخفنَ المجتمع ونظرته إلى المرأة المتمردة التي تقول لا. فالمتعارف عليه في مجتمعنا هو أنّ ذكور العائلة هم الذين يتدخّلون لحلّ مثل هذه المشكلات ويحسمون القرارات وليس الدولة ولا القوانين. لهذا لا تعرّض النساء أنفسهنّ لمشكلات كبرى فتنقلب العائلة ضدهنّ".
من جهتها، ريم التي شهدت على تعنيف زوج أمّها، لم تستطع الإفصاح لأحد عن معاناتها وأختها. هما اختارتا الصمت كي لا تتعرّض الأمّ إلى مزيد من العنف. وكانت الأخيرة قد تزوّجت رجلاً ميسوراً بعد طلاقها من الأب، فاستغلّ عوزها ليضربها ويفرّغ غضبه فيها. وبحسب رواية ريم فإنّ أمّها أُدخلت مرّات عدّة الى المستشفى نتيجة تعرّضها إلى العنف، وعندما حاولت اللجوء إلى جهات أمنية لم يستجب أحد. فنفوذ زوجها كان أقوى من وجعها ومعاناتها. وهنا يُطرح السؤال: من يحمي النساء من العنف؟

تظاهرة ضد العنف الأسري في لبنان (بلال جاويش/ الأناضول)
الرسالة واضحة: أوقفوا العنف ضدّ المرأة (بلال جاويش/ الأناضول)

توضح غنوي أنّ "موضوع الحماية واسع جداً، وهو متعلّق بالدولة اللبنانية ومؤسساتها ودوائرها والدرك والجهات الأمنية التي تحمي جميع أفراد المجتمع. وفي ما يتعلق بالحماية الأسرية، فمتابعة قضايا العنف الأسري تندرج تحت قانون 422 الخاص بمحكمة الأحداث أو قانون 293 الخاص بحماية المرأة من العنف الأسري. وتبدأ الحماية عند إفصاح المرأة عن تعرّضها إلى العنف، أي عند توجّهها إلى أقرب مخفر للتبليغ. فتؤخذ إشارة النائب العام وتُحال إلى الطبيب الشرعي المعتمد من قبل الدولة. وبعد تقرير الطبيب الشرعي، تُسأل عن خياراتها: هل تقدّم شكوى جزائية أو تطلب حماية فقط؟ فاليوم الجهات الأمنية صارت مدرّبة من قَبل منظمات، أبعاد واحدة منها، على تلقّي الشكاوى بالشكل الصحيح والتعامل مع المُعنّفات لتأمين الحماية اللازمة للمرأة وتحصينها".
وتشير غنوي إلى أنّه إذا قرّرت المرأة المعنّفة اللجوء إلى منظمة "أبعاد"، فإنّ الأخيرة "تُقدّم خدمات مجانية ومتخصصة وسرية جداً. كذلك تدير وتشرف على مراكز إيواء آمنة مؤقتة للنساء باختلاف أعمارعنّ وحالاتهنّ الاجتماعية، سواءً أكنّ معرّضات إلى الخطر أم ناجيات من العنف. ومن ضمن الخدمات والبرامج التي نقدّمها للنساء والتي تندرج تحت الهدف الأساسي، أي إنهاء العنف على النساء، يُصار إلى تدريبهنّ على مهارات الحياة الأساسية. ويبدأ ذلك مع التدريب على الاستقلالية، ثمّ على مهارات الإفصاح والتعبير والتواصل والتربية الإيجابية. كذلك نعمل على دعم الناجيات وتوفير الرعاية الصحية الجسدية كما النفسية لهنّ، ونوفّر الدعم القانوني أيضاً".

المرأة
التحديثات الحية

وتشدّد غنوي على أنّ "المنظمة تحرص على الاستدامة في تقديم الخدمات حتى بعد الانتهاء من التدخّل. فتُدرَس الاحتياجات ويوضَع سلّم أولويات لما تختاره المرأة لمصلحتها. فدورنا هنا طرح كلّ الخيارات المتاحة وتمكين المرأة وتحصينها لتصل إلى مرحلة التخطيط لحياتها بنفسها".
تجدر الإشارة إلى أنّ منظمة "أبعاد" وصلت في خلال أزمة كورونا والإقفال العام الذي فُرض في لبنان، إلى 3527 صاحبة حقّ، بحسب تقريرها السنوي. وفي مقارنة ما بين يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز وأغسطس/ آب من عام 2019 وبين الفترة نفسها من عام 2020، ارتفع عدد الاتصالات من 542 إلى 1472 اتصالاً.

المساهمون