استمع إلى الملخص
- الأدب والكتابات حول الحرب: ظهرت الكتب بعد 15 عامًا من انتهاء الحرب، وكانت كتب الاعترافات الأكثر تأثيرًا في تقديم رؤى عن الروح الفاشية والتعبئة الطائفية.
- اليمين واليسار اللبناني خلال الحرب: تبارى الطرفان في الدفاع عن آرائهما، حيث دعا اليمين إلى تقسيم لبنان، بينما تمسك اليسار بالصراع الطبقي، وظهرت كتب تناولت الحرب من زوايا مختلفة.
شكّلت الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في 13 نيسان/ إبريل 1975، أي منذ نصف قرن بالتمام، حدثًا مفصليًا في تاريخ لبنان الحديث، ونقطة تحوّل غيّرت نظامه السياسي وبنيته الديموغرافية والستاتيكو الطائفي الذي استقر بعد الاستقلال في سنة 1943. وقد شُغل اللبنانيون بعد توقف القتال في سنة 1990 بأمور كثيرة مثل تفسير نصوص اتفاق الطائف وتطويع بنوده لمصالحهم المتنافرة، وقلما التفتوا إلى لحظة الحرب ومغزاها التاريخي، وإلى نتائجها التي غيّرت كل شيء تقريبًا، من التوازنات الطائفية إلى الدستور والسياسات. وكان من عقابيل تلك الحرب الهوجاء أن جماعات ارتفعت مكانتها في سُلّم دولة ما بعد اتفاق الطائف في سنة 1989، ومجموعات انحطت درجاتها إلى قيعان واطئة. فالجماعات التي ارتفعت هي المليشيات الطائفية المتقاتلة، والتي استولت على الدولة ومؤسساتها بعد توقف القتال. أما المجموعات التي تهاوت فهي الزعامات السياسية القديمة التقليدية التي لم تتمكن من تأسيس مليشيات مسلحة أمثال كامل الأسعد في جنوب لبنان وصبري حمادة في منطقة الهرمل وريمون إدة في جبل لبنان، ومَن في حكمهم.
كتب الحرب اللبنانية
وقد انتظر اللبنانيون خمسة عشر عامًا، بعد وقف القتال، كي تبدأ "كتب الحرب" في الانهيال، بغزارة نسبية، على المكتبات. ومع ذلك فقد ظلت الكتب الموضوعية والحيادية والنزيهة، بالمعنى العلمي، قليلة جدًا، فيما كثُرت كتب التبجيل والبطولات خصوصًا ما تعلّق منها بأمراء الحرب أمثال بشير الجميل ونبيه بري ووليد جنبلاط وميشال عون وسمير جعجع. وقد انتظر الصحافي غسان شربل، على سبيل المثال، سنوات عدة حتى تمكن من استنطاق بعض أمراء الحرب أمثال إيلي حبيقة وسمير جعجع ووليد جنبلاط وميشال عون، وأصدر خلاصة استنطاقه في كتاب عنوانه أين كنت في الحرب (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2011). وكانت "النجوم الزاهرة"، أي قادة مليشيات الحرب، تتفادى الكلام عن الماضي الشنيع، وعن انخراطها فيه، وقلما كتب هؤلاء تجاربهم أو مذكراتهم. والقليل القليل من هؤلاء نشروا شهادات مختصرة عما فعلوه، وعما شاهدوه، مثل كتاب وجوه وأسرار من الحرب اللبنانية (شهادات أعدها نبيل المقدم، بيروت: دار نلسن، 2016).
تفوقت الكتب المصوّرة على الكتب العادية في إظهار بشاعة الحرب وضراوتها، وجاءت أكثر صدقية بكثير من الكتب السردية
تفوقت الكتب المصوّرة على الكتب العادية في إظهار بشاعة الحرب وضراوتها، وجاءت أكثر صدقية بكثير من الكتب السردية. ولعل استنكاف الكتب السردية عن كشف الحقائق مردّه إلى أن جميع المليشيات وَلَغت في دماء اللبنانيين والفلسطينيين ولو بنسب متفاوتة (وأستثني من ذلك بالتأكيد الأحزاب العلمانية واليسارية والقومية)، وظل الحديث عن المجازر الطائفية والاغتيالات يثير أشجانًا سياسية وطائفية كثيرة. لذلك كان تجنب الكلام عن تلك الأهوال أفضل وأكثر أمانًا وأقل إحراجًا، كاغتيال رشيد كرامي وداني شمعون وطوني فرنجية، والمجازر التي ارتكبت ظلمًا بحق المسيحيين الآمنين عقب اغتيال كمال جنبلاط، علاوة على المجازر المشهورة مثل مجزرة السبت الأسود (1975)، ومجزرة عينطورة (1976)، ومجزرة إهدن (1976)، ومجزرة تل الزعتر (1976)، ومجزرة الدامور (1976)، ومجزرة الصفرا (1980)، ومجزرة صبرا وشاتيلا (1982).
وفوق ذلك، فقد صار أعداء الأمس حلفاء اليوم في دولة ما بعد اتفاق الطائف، وليس من الملائم، في هذه الحال، فتح الجروح شبه المندملة، لأن فتح الجروح يعني فتح المقابر التي أهال الجميع التراب على مَن فيها من الضحايا. وإذا استثنينا ما كتبه يوسف العراقي (يوميات طبيب في تل الزعتر، 2016)، وعبد العزيز اللبدي (حكايتي في تل الزعتر، 2016)، وبيان نويهض الحوت (صبرا وشاتيلا، 2003)، فإن ما كُتب عن المجازر التي نزلت بالفلسطينيين في لبنان ظلت محصورة إلى حد بعيد، بالصحف والمجلات منذ مجزرة الكحالة في سنة 1970، حتى مجزرة عين الرمانة في مستهل الحرب الأهلية في سنة 1975، وما تلاها من مجازر مخيمي ضبية وجسر الباشا. إن أفضل الكتب عن الحرب كتبها صحافيون او باحثون أجانب.
ويمكننا أن نعثر على خمسة كتب على الأقل لا يمكن الاستغناء عنها في أي استعادة لتاريخ تلك الحرب هي: تحقيق في مجزرة (أمنون كابليوك، 1983)، حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي (جوناثان راندل، 1984)، ويلات وطن (روبرت فيسك، 1990)، أسرار حرب لبنان (ألان مينارغ _ جزآن، 2004 و2006)، مجزرة إهدن (ريشار لابيفيير، 2009). ومع أننا صرفنا النظر هنا عن المعارك والحروب مع إسرائيل، ولا سيما حربي 1978 و1982، إلا أن من المفيد، لاكتمال المشهد، إضافة عملية كرة الثلج (شمعون شيفر، 1985)، وحرب الظلال (زئيف شيف وإيهود يعاري، 1985).
ربما كان كتاب كريم بقرداوني السلام المفقود (1984)، أول محاولة لتفسير بعض وقائع الحرب، ورصد اللاعبين في ميدانها مثل الرئيس الياس سركيس والرئيس حافظ الأسد، وكذلك كتابه الثاني لعنة وطن (دون تاريخ). ويُعدّ كتاب جوزف أبو خليل قصة الموارنة في الحرب (1990)، أفضل ما كُتب عن استقواء حزب الكتائب اللبنانية بإسرائيل على اللبنانيين الآخرين. وعلى الرغم من الفجوات العلمية الكثيرة في هذا الكتاب، إلا أنه يتضمن سردًا صادقًا، إلى حد ما، لبدايات التعاون الكتائبي – الإسرائيلي الذي أُعيد إحياؤه في سنة 1976، وكان قيدوم ذلك التعاون داني شمعون وكميل شمعون، ثم بشير الجميّل وبيار الجميّل وتابعيهم.
بين اليمين واليسار
وفي خضم المعارك الشرسة لتلك الحرب تبارى اليمين اللبناني واليسار اللبناني أيضًا في المدافعة عن آرائهما وتبرير أفعالهما. وكانت حصة اليمين اللبناني أكثر جلبة وصراخاً وعويلاً، فأصدر أمين ناجي (اسمه الأصلي إبراهيم نجار الذي عُين لاحقًا وزيرًا في إحدى الحكومات اللبنانية) كتابًا متطرفًا يدعو فيه إلى تقسيم لبنان هو "لن نعيش ذميين" (1979). وتصاعدت في تلك الحقبة الدعوة إلى الفيدرالية من أوساط جامعة الروح القدس (الكسليك)، ومن رؤوس منظري الجبهة اللبنانية أمثال إدوار حنين وفؤاد أفرام البستاني وشارل مالك.
أما اليسار اللبناني فظل لابثًا عند مقدماته النظرية التقليدية كالصراع الطبقي. ولما لم يتمكن ذلك اليسار من تقديم تفسير لانخراط الطبقة العاملة "المسيحية" في القتال ضد الطبقة العاملة "المسلمة" وبالعكس اخترع نظرية "الطائفة الطبقة"، وهي تعني، في أحد وجوهها، أن المسلمين يشكلون، في معظمهم، البروليتاريا اللبنانية، فيما يشكل المسيحيون، في أغلبيتهم، البرجوازية اللبنانية. ومهما يكن الأمر في مضمون تلك الأخيلة اليسارية الساذجة، فقد ساهم يساريون في تحليل دوافع الحرب والتحذير من انسياقها إلى المجازر الطائفية ردًا على المجازر التي يرتكبها اليمين. ومن أوائل مَن تصدى لتحليل أسباب الحرب جورج حداد في كتابه في مقدمات الحرب اللبنانية (1979). وفي ما بعد ساهم سليمان تقي الدين في التأريخ لدوافع اليسار اللبناني في الانخراط في تلك الحرب في كتابه اليسار اللبناني وتجربة الحرب (2013).
ويمكننا، في هذا الميدان، أن نتعقب عددًا من الكتب متفاوتة القيمة في هذا المجال، مثل الحرب اللبنانية: أسباب ونتائج (عدنان فحص، 1991)، مذكرات الأباتي بولس نعمان (إعداد أنطوان سعد، 2009)، على دروب الشهامة (أنطوان بركات، 2015، وهو مملوء بالمخرقات)، أسباب وأسرار الحرب اللبنانية (نصار غلمية، 2016)، الحروب الأهلية اللبنانية (فهد حجازي، 2017)، أميركا أشعلت حرب لبنان (أسعد أبو خليل، 2017)، موسوعة الحرب اللبنانية (مسعود الخوند، 2019)، جريمة ولا عقاب: الحرب الأهلية وترميم النظام الطائفي (جمال واكيم، 2020). غير أن خمسة كتب لافتة صدرت عن الحرب لا يمكن إغفالها قط، هي: أضواء فلسفية على ساحة الحرب اللبنانية (أنطوان جورج خوري، 1978)، الغرباء في خطاب لبنانيين عن الحرب الأهلية (مارلين نصر، 1996)، نحكم باسم الشعب اللبناني (القاضي فيليب خير الله، 2013، وفيه تفصيلات محاكمة سمير جعجع)، الحرب الأهلية في لبنان: دليل ببيليوغرافي (ليندا صدقة ونواف سلام، 2017)، حرب لبنان: من الشقاق الوطني إلى النزاع الاقليمي (سمير قصير، 2018).
أكثر الكتب مدعاة للتأمل العميق والتبصر، واستدرارًا للألم، والتفكر في المصائر التي انتهى إليها كل من ساهم في تسعير نيرانها، هي كتب الاعترافات
لا شك في أن أكثر الكتب مدعاة للتأمل العميق والتبصر، واستدرارًا للألم، والتفكر في المصائر التي انتهى إليها كل من ساهم في تسعير نيرانها، هي كتب الاعترافات. ولهذه الكتب فضائل جمّة تتيح دراسة الروح الفاشية التي غمرت المقاتلين جراء التعبئة الطائفية والنزعة "الوطنية" المتطرفة ضد الغرباء. والغرباء هنا هم الفلسطينيون والسوريون والمسلمون أيضًا. كما أن هذه الكتب تفسح في المجال أمام الباحثين لدراسة مسالك المجتمع المافيوزي وسلوك أفراده الذين وجدوا "سعادتهم" في القتل والمخدرات والنهب والسطو والإتاوات وكراهية الآخر الذي "لا يشبهنا". وهؤلاء الأفراد عاشوا وقاتلوا وقتلوا في مجتمع إسبارطي كامل. لذلك ليس من المستغرب أن تظهر فيه كائنات من طراز "الشواية" Toaster، الذي كان يربط مَن يقبض عليه إلى عمود كهرباء ذي توتر عالٍ ويشويه، أو من طراز "كرة النار" fire ball، الذي كان مهووسًا بإحراق الأشخاص والبيوت بأصحابها. وقد عاش بعض هؤلاء في الجحيم بعدما توقفت الحرب، واستولت عليهم الكوابيس والأرق وعذاب اليقظة والكآبة والقلق والهلع، وأُصيب كثيرون منهم بانهيارات عصبية، وتحول عنهم الناس، فصار الواحد منهم مثل البعير الأجرب.
يعترف أسعد شفتري، وهو المسؤول سابقًا عن التحقيق في جهاز أمن القوات اللبنانية، ومن الملتصقين بإيلي حبيقة، بقوله: طلبوا مني [أي ميليشيا حزب الكتائب] على سبيل برهنة أهليتي أن أقتل سجينًا بيدي العاريتين [...]، فوافقت على ذلك شرط أن يكون السجين مستحقًا الموت فعلاً، فاقترحوا عليّ سجينًا. وبعد أن قرأت ملفه، حملت خنجرًا وقتلته من غير أن يرف لي جفن [...]، ثم قتلتُ آخر بيدي" (أنظر كتابه الحقيقة ولو بصوت مرتجف، ص 60). نحن هنا أمام حالة مروّعة من القتل براحة ضمير. لكن، بعد أن تنتهي حالة الخوف، تبدأ المعاناة الكابوسية، ثم فجأة، ينبثق الإيمان الديني ليقي صاحبه الجنون أو الانتحار. ولا ريب أن التحليل النفسي يستطيع أن يدرس بعمق حالات التجدد الإيماني بعد حياة مغمورة بالرذائل والسفالات، وأن يُنصت إلى الهذيان الذي يسبق الإيمان، أي الإيمان المباغت الناجم عن تبكيت الضمير والشعور بالإثم والخوف من جهنم. غير أن الاعتراف، بالمعنى الديني، لا يُعتد به إلا إذا كان صادرًا عن الندم العميق. وشرط التوبة هو إعلان الحقائق كما هي، أي الصدق لا الكذب، فإذا استثنينا كتابي أسعد شفتري وريجينا صنيفر، فإن معظم كتب الاعترافات تفتقر إلى الصدق، وتميل إلى إنكار كثير من الوقائع، وتتجنب الخوض فيها.
افتتح كتب الاعترافات هذه جوزف سعادة بكتابه أنا الضحية والجلاد أنا. وهذا الكتاب صدر أولًا بالفرنسية حين تمكن صحافيان هما فريديك برونكيل وفريدريك كوديرك من استدراجه ليروي لهم وقائع مجزرة السبت الأسود المروّعة (1975)، ثم تُرجم الكتاب إلى العربية لاحقًا (بيروت: دار الجديد، 2005). أما مارون مشعلاني فقد ظهرت له العذراء مريم مرة، فانضم إلى "أبناء الحب الإلهي" في أثناء تردده على مدينة ميديوغوريه التي باتت "كرسي اعتراف العالم". وهناك، في سنة 2015، التقى راهبة أخبرته بأن مريم العذراء اختارته، وأن الرحمة الإلهية محت جميع الآلام والعذابات والصعوبات التي مرّ بها (ص 283-285 من كتابه صليب الحرب المليء بالهلاوس والأكاذيب). أما أبرز كتب الاعترافات فهي التالية: أنا الضحية والجلاد أنا (جوزف سعادة، 2005)، ألقيتُ السلاح (ريجينا صنيفر، 2008)، ثمن السلم (ترايسي داني شمعون، 2013)، الحقيقة ولو بصوت مرتجف (أسعد شفتري، 2016)، كوبرا (روبير حاتم، من دون تاريخ)، صليب الحرب (مارون مشعلاني، 2018). ومن المؤكد أن ثمة كثيرًا من الكتب التي تناولت الحرب الأهلية اللبنانية، تأريخًا وشرحًا وتبريرًا ومحاماة عن الذات في وجه الخصوم، لكن ما عرضناه هنا إنما هو مجرد عينة تمثيلية ليس أكثر.