استمع إلى الملخص
- مفهوم الثورة والحرية: أعادت الثورة تعريف الحرية، مطلقة حراكًا سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا جديدًا، مما يتطلب تطوير فلسفة تحقق أحلام الشعب في نظام اجتماعي عادل ونهضة متوازنة.
- التحديات والآمال المستقبلية: رغم سقوط النظام، تواجه سورية تحديات في تحقيق الديمقراطية، مع وصول مجموعات إسلامية للسلطة، مما يستدعي عقد اجتماعي جديد لبناء دولة حديثة تستند إلى القانون والعدالة.
تحمل الذكرى الرابعة عشرة للثورة السورية معنىً مختلفاً، لأنها تأتي بعد ثلاثة أشهر على سقوط نظام الأسد البائد، الأمر الذي يكسبها طابعاً جديداً، يسمه احتفال السوريين بسقوط النظام الذي جثم على صدورهم أكثر من خمسة عقود، وبما يمنح مباني جديدة لمفاهيم الحرية والكرامة والعدالة، التي يتطلّع السوريون إلى تحقيقها في سورية الجديدة. وتشكّل هذه الذكرى مناسبة للاشتغال على علاقة مفهوم الثورة بمفهوم الدولة، وكيفية الانتقال من مرحلةٍ ساد فيها المفهوم الأول إلى مرحلة يجري فيها العمل على تحقيق المفهوم الثاني، وذلك عبر خوض السوريين حواراتٍ تفاعلية لم يعرفوها من قبل، بل كانوا محرومين منها قسراً، بالنظر إلى مصادرة النظام البائد الفضاء العام أمام كل أشكال العمل السياسي والاجتماعي والثقافي.
شيّدت الثورة السورية مفهوماً ثورياً للحرية، وأنجبت حراكاً وتفاعلاً بين السوريين لم يعرفوه من قبل
يمكن القول إن ثورة مارس (2011) شيّدت مركبات جديدة لمفهوم الثورة ومعانيها، وحققت ما ذهب إليه الماركيز دو كوندورسيه (ماري جان أنطوان نيقولا كاريتا)، أحد منظّري الثورة الفرنسيَّة، حين قال إن مفهوم الثورة لا ينطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية، باعتبار أن مفهوم الحرّية الذي نادت به كان ثورياً بالأصل، ويلاقي ما وصفته الفيلسوفة حنة أرندت المعيار الأعلى للحكم على المنظومات والهيئات السياسية.
إذاً، شيّدت الثورة السورية مفهوماً ثورياً للحرية، وأنجبت حراكاً وتفاعلاً بين السوريين لم يعرفوه من قبل، وشمل مستويات سياسية وثقافية واجتماعية وإعلامية، وبات مطلوباً من نخبهم الفكرية النظر في معنى انتصار الثورة، ليس فقط في حدث سقوط النظام وهروب رموزه الذين خلفوا وراءهم جرائم وانتهاكات وخراباً وفساداً، بل محاولة اجتراح فلسفة جديدة في الثورة، تنير دروب تحقيق أحلام عامة الناس في نظام اجتماعي عادل، ونهضة تنموية متوازنة، وصولاً إلى تحقيق وعود ثورتهم.
غير أن الذكرى الرابعة عشرة تحلّ بعد تغير المعادلات السائدة، بما يفتح باباً للتغير نحو الحرية في سورية جديدة. لكن، في المقابل، لا يشكل سقوط النظام وهروب بشار الأسد المدخل لتحقيق الحرية والدولة المدنية والديمقراطية، حيث تشي الوقائع بأن مسألة الحريات، وخاصة السياسية، لا تعيرها السلطات اهتماماً، وتتحفّظ على إشراك القوى السياسية. ولعل مرد ذلك يعود إلى خصوصية نموذج التغيير السوري الذي حمل إلى الحكم مجموعات إسلامية، اتّخذت العمل المسلح حاملاً لمشروعها الرافع راية الثورة السورية، وتشي تصرّفات قادتها بعد الوصول إلى السلطة باختلاف كبير عن ماضيهم، حيث يحاولون تقديم مركبات ومفاهيم جديدة لنموذج إسلامي جديد، يطوي ما ساد من أشكال الإسلام السياسي وسماته، وتتحدّد مركباته في وصول الإسلاميين إلى السلطة، ويحاولون تعلّم إدارة الدولة، وتثبيت دعائمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفق نهج ضعيف التشاركية، لكنه يسعى إلى أن تكون سورية دولةً طبيعيةً في تعاملها مع الداخل ومع محيطها الخارجي.
يحاول الحاكمون الجدد في سورية تقديم نموذج يختلف عن النماذج التي شهدتها دول عربية وإسلامية، وفشلت جميعاً في بناء دولة وطنية جامعة بصبغة إسلامية
الواقع أن السلطات السورية الجديدة لا يتوقع منها بناء دولة ديمقراطية، سواء وفق نموذج الديمقراطية الليبرالية التي سادت في دول أوروبية عديدة، أو وفق النماذج الديمقراطية الأخرى. لذلك تبقى الديمقراطية مطلباً قائماً ضمن أجندات النخب السورية الفكرية والثقافية، فيما تتمحور مطالب عامة السوريين في العيش بكرامة، وتأمين فرص العمل والسكن والتعليم والصحة. وبالتالي، يكمن تحقيق وعود الثورة في تحقيق ذلك كله.
في المقابل، يحاول الحاكمون الجدد في سورية تقديم نموذج يختلف عن النماذج التي شهدتها دول عربية وإسلامية، وفشلت جميعاً في بناء دولة وطنية جامعة بصبغة إسلامية. كما أنهم يفترقون عن حركات التطرّف العدمية والجهادية العنفية، التي فشلت في مختلف نماذجها العربية والإسلامية. ولعل الصورة التي يحاولون الاقتراب منها هي التديّن المعتدل، السوري أو الشامي، والانطلاق منه نحو بناء دولة حديثة، تستند إلى القانون ومبادئ العدالة والمواطنة. ولعل الإشارات والخطوات الإيجابية التي قدّمتها السلطة الجديدة خلال أكثر من ثلاثة أشهر، أظهرت فيها واقعيةً في التعامل مع مختلف أطياف المجتمع السوري وحساسياته ومكوناته، وخالفت بذلك كل التكهنات السائدة سابقاً، التي كانت تستند إلى ماضي هيئة تحرير الشام وأخواتها، وتنذر بوقوع حمامات دم ومجازر ثأرية في حال وصولها إلى العاصمة دمشق، لذلك بدا مفاجئاً لمراقبين عديدين عدم تعرّض الإدارة الجديدة لنمط حياة السوريين في المعتقد والمأكل والملبس، بل إنها تعي أن إسقاط النظام ساهم فيه كل السوريين. ومع ذلك، على السوريين ألا يكفوا عن المطالبة بعقد اجتماعي ينظم العلاقة بينهم وبين الدولة وحكامها، وينتج صيغة للتعايش بين مكونات المجتمع تحت مظلة دولة القانون والمؤسّسات التي يحتمي بها جميع السوريين. ولن يتحقق ذلك إلا حين يتمكّنون من فرض إرادتهم من خلال قواهم الفاعلة والواعية والمنظّمة، فالطريق ما زال طويلاً من أجل القطع مع النظام البائد، والتخلص من تبعاته، والسير نحو دولة عصرية، تليق بما قدّمه الشعب السوري من تضحيات جسام، وتلبي كل طموحاته وتطلعاته.
تتجسّد معاني الذكرى الرابعة عشرة في أنها تشكل مناسبة لطرح أسئلة جديدة على حدث الثورة، وتأمل الفسحة ما بين لحظة اندلاعها وسقوط النظام، وكانت حافلةً بالمتغيرات والتطورات، مع تبيان ضرورة عدم التوقّف في نهايتها، بل النظر إلى ما يفصل بين ما هو الحاضر وما هو مقبل في المستقبلين المنظور والبعيد، والعمل على أن ما هو مقبل من إجراءات سواء على مستوى الحوكمة، أو الدستور، أو مجلس الشعب، والانتخابات وسوى ذلك، يحمل ما يمكن من تحقيق وعود الثورة ومطالب ناسها الذين قدّموا الكثير من أجلها، وعدم التزام الصمت حيال ما يخالف ذلك، وتناوله بالنقد والمساءلة، وطرح البدائل، واستخدام كل وسائل الاحتجاج السلمية.
المأمول أن تشكل الذكرى الرابعة عشرة للثورة مناسبة للنظر في التاريخ السوري، على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية كافة، باعتبار الثورة عملية تعيد النخب السورية من خلالها كتابة تاريخ بلادها، حيث بدأت حياة جديدة بعد إسقاط نظام الأسد البائد، وبات المطلوب تحمّل مسؤولية الارتقاء بالوعي واجتراح الأفكار والمعاني وإنماء روح النقد البناء من أجل الوصول إلى مستقبل أفضل، يقطع مع العهد البائد ورواسبه وأمراضه، ويعلي من معاني الحرية والكرامة والعدالة، ولا يكف عن التحلي بروح التحرر. وسيظل الأمل يسكن غالبية السوريين كي ينالوا حقوقهم، ويشاركوا في بناء وطن يتسع للجميع.