فلتقسّموني... إن قسّمت بلادي

22 ابريل 2025
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يعبر النص عن الفوضى والاضطراب في سوريا، حيث ترمز الوردة الذابلة إلى الانقسامات والصراعات الداخلية، ويتساءل الكاتب عن جدوى تقسيم البلاد، معبراً عن أمله في استعادة الوحدة والاستقرار.

- يصف الكاتب ارتباطه العميق بكل جزء من سوريا، مشدداً على أهمية الوحدة الوطنية والتضامن، حيث تعكس كل منطقة جزءاً من هويته وذكرياته، مما يبرز حبه وانتماءه للوطن.

- يعبر الكاتب عن أمله في بقاء سوريا موحدة، ويطلب أن يُكتب على شاهدة قبره أنه يحتضن خريطة سوريا الموحدة، مما يعكس إيمانه بوحدة البلاد وتفاؤله بمستقبل أفضل.

تقسيم؟ فدرلة؟ تقسيم؟ فدرلة؟ لم تكد أصابعي تنزع أربع بتلات من وردة جوريّة حتّى ذبلت، وخزتني شوكتها بقسوة لأسقطها من يدي. سقطت الوردة. ماتت الوردة.
أصوات صخب، تجييش، تشبيح، تخوين، شماتة، تهديد، أحقاد، انتقامات، جهل، غباء، نحيب، عويل، دماء، نزوح، تهجير، استغاثات، فوضى، ضباب، وجنون! والوردة انتحرت. ركعت بجانبها أقسم بأغلظ الإيمان، وبأغلظ آيات القهر والعجز المديديْن، على براءتي من تلويث بتلاتها بالبغضاء. ومن راحة يدي سالت الدماء، فاحمرّ موت الوردة. أيّها الأحمر لمَ لا تلوّن وجنات الحقد القاتل، لعلّه يخجل، فيستكين. لمَ لا تصبغ ضمائر الأغبياء والجهلة من شبّيحة ومحرّضين، وضمائر المتآمرين، لعلّ الوردة تقوم. لعلّ البلاد تكشّ عن وجهها ذباب الضياع، وتهشّ غبار اندثارها المحتمل، لتكفّ عن وخز القلب بحشرجات احتضارها.
منذ عتق وجودنا، ما زال ثمّة ناطقون يرسّمون أنفسهم نيابة عنّا، وباسمنا يتحدّثون، ويقرّرون، نحن فقراء هذه الأرض وملحها المغبّر، ملح نرشّه فوق جراحنا النازفة. لهم المنابر والمسارح، لهم التخمة، ولنا الهباء.
هل ينفع أن أردّد ثانية إنّ هذه الأرض المقدّسة الملعونة لنا جميعاً؟
علّمتني تجارب حياتي العرجاء أن أصفّ لعينيّ الاحتمالات كلّها، ثمّ أبحث في اتساع المابعد لابتسامة انتصار الأمل. إنّما اليوم، تتقاذفني الأحداث بطيشها العجول. تركلني شهوات الشرّ المترعة بالساديّة، بالتواطؤ، والغدر. تصمّني الأبواق الإعلاميّة الملوّثة ببقايا أنفاسنا الوجلة.
من باب اللّاتشاؤم، ومن الدراية بتلقّي الصدمات المعتادة، ومن عجزي المرتعد، ولاحتمال قتلي في عمائنا، أو انتحاري، أكتب وصيّتي لمن يهمّه الأمر.
إن قُسّمت سوريتنا، فلتقسّموني معها، ولتوزّع أعضائي على تراب البلاد:
لدمشق الحياة، حيث رأيت، رأسي. لقلمونها، بنك القلوب الصافية وبذخ الأيادي الخضراء، صدري. لدرعا وحورانها، هناك غطست روحي في يناعة العزّة الوارفة، والكرم الطائيّ. ساقيّ. للسويداء كاشطة الضيم عنّا بأكملنا، من حجارتها السوداء استنشقت رحيق الإباء. كليتيّ. للقنيطرة وجولاننا، بأمّ الحزن والفخر، شاهدت استبسال نزيف الجراح لصون الهويّة. رئتيّ. لحمص العديّة واسطة العقد، فيها عرفت تجسّد الرحمة المكتملة، وفوران الحنان. ذراعيّ. لحماه وريفها سمفونيّة النواعير القديمة، والفداء الشامخ، هناك فهمت كيف يُبستن نقاء الوطن، والأنفة والجود. كبدي. لإدلب، حيث تباركت يديّ بزيتها وزيتونها، وسحرتني حكايات قراها المنسيّة، وسرديّات تاريخ البهاء. بنكرياسي. لحلب الشهباء، مصنع الأصالة والطرب، مصنع الوطن الغنيّ العزيز. ظهري. لشمالنا الفراتيّ والخابور، أذهلتني حنايا الروافد بكنوز أمننا الشاهق؛ ارتوائنا والشبع، دفئنا والنور، وحِنّة الألوان المزدحمة. كبدي. وللساحل السوريّ، الشامخ كجباله، شاسع الصبر والطيبة، الكريم كرم ينابيعه وأنهاره، حقوله والبساتين، والصامد كبحره. هناك مسقط رأسي، طفولتي واليفاعة وبعض شبابي. في بيتنا، لطالما صخب فرح والديّ، باستقبال أصحابنا من الأصقاع السوريّة قاطبة، وعديد من البلدان العربيّة. دفء، كتب، صحف، وحكايات جدّتي العمياء الآسرة. هناك تعلّمت كيف أصيغ هويّتي الشخصيّة المغايرة، كيف أعتز بأنوثتي، وكيف أحلّق خارج السرب، وأطير صوب مستقبلي. وفي غابة من السنديان والبلّوط الشاهقين والرياحين، تحت كثافة اخضرارها الأزليّ، يغطّ الأسلاف والأجداد في نومهم الأبديّ. بين شموخ الأشجار وتواضع القبور، كوّنت فلسفتي الخاصّة بالوجود والحياة. لهناك بكامل قيافة أخضر جباله وأزرق بحره: قلبي.
فليقرأ الملأ ما حفر على شاهدة قبري: "هنا ترقد الأنثى، تحضن خريطة سوريّة الموحّدة، وترانيم بأس عشّاقها الصناديد".

المساهمون