فخري البارودي وحذام وذاكرة طبيخ نجت من الحريق

24 يونيو 2025   |  آخر تحديث: 11:33 (توقيت القدس)
(محمد العامري)
+ الخط -
اظهر الملخص
- إحياء تراث المطبخ العباسي: في عام 1963، أُنقذ كتاب "الطبيخ والمأكل" لمحمد بن الحسن البغدادي من النسيان بفضل أحمد الصافي النجفي وفخري البارودي، حيث يعكس ترف وتنوع المطبخ العباسي وتأثير دمشق في تشكيله.

- المخلّلات والمطيبات: يحتوي الكتاب على وصفات مخلّلات فريدة مثل مخلّل النعناع، التي كانت تُستخدم لتحسين الطعم والهضم، مما يعكس الفهم العميق لفوائد الطعام في العصر العباسي.

- دور النساء في حفظ التراث: ساهمت النساء، مثل حذام ابنة أخت فخري البارودي، في توثيق وحفظ تراث المطبخ الدمشقي من خلال تدوين الوصفات المتناقلة شفهياً، مما يعكس احتراماً للنعمة وثقافة الطهي.

هكذا إذاً؟ كان علينا أن ندرك منذ البداية، أن مطبخ الشام بكل الغنى والتنوع الذي فيه، لا يمكن ان يكون مجرد طعام. وأنه مثل كل شيء هنا: نتاج إرث عميق وطويل. وهنا الحكاية: 

في لحظةٍ غير متوقعة من صيف عام 1963، نجا جزء صغير من ذاكرة المطبخ العباسي من النسيان والنار، بدأت الحكاية عندما زار الشاعرُ أحمد الصافي النجفي الزعيمَ السوري فخري البارودي عام 1950، وأخبره أن لديه كتاباً في الطبخ عند العرب. كتاب فريدٌ وغريب، مُؤلَّفٌ قبل ألف عام، وقد طبعه جلبي الموصلي، ونفدت الطبعة وأصبح الكتاب نادراً، مقترحاً على البارودي، الذي بالإضافة إلى أنه سياسي كان شاعراً ومجدّداً في الفن والموسيقى، أن يعيد طباعته، ففي رأي الشاعر النجفي إعادة طباعة هذا الكتاب إحياء لتراث الطبخ خلال العصر العباسي. 
يكتب فخري البارودي في مقدّمة الكتاب: أخذت الكتاب ونسيته في مكتبتي، ومضت بضع سنوات على ذلك والكتاب في المكتبة.. وفي يوم كنتُ مريضاً طريح الفراش لا أغادره، زارني ابن عمّي رشيد بن سهيل البارودي، ودعاني إلى الذهاب معه إلى الزبداني وقضاء بضعة أيام في داره. تمنّعتُ وأصررتُ على البقاء، وكان الوقت صيفاً، وذلك في شهر تموز، وبعد إصراره الشديد، قبلتُ الدعوة... واصطحبت معي كتاب معجم الدخيل، وكتاب الطبخ (الذي رشحه الشاعر أحمد الصافي النجف)، وقلت أتمم في الزبداني تحضيرهما.
غادر فخري البارودي دمشق في الثالثة بعد الظهر في يوم السبت 13 يوليو/ تموز عام 1963، وبعد بضعة أيام وقعت في دمشق محاولة انقلاب على انقلاب كان نفّذه ضباط بعثيون قبل أربعة أشهر، دخل على إثره بعض الثوار في يوم الخميس 18 تموز دار البارودي، مقابل قيادة الأركان، وأطلقوا الرصاص على الأركان، فأجابتهم حامية الحراسة بنيران شديدة، فأصابت بعض القنابل دار البارودي واحترقت الدار والمكتبة، ولم تسلم من كتب البارودي إلا الكتب التي اصطحبها معه إلى الزبداني، وبعض القواميس والكتب اللازمة للتسلية. وعندما عاد إلى دمشق قرّر فخري البارودي نشر كتاب "الطبيخ والمأكل" في دمشق بدار الكتاب الجديد، وساعدته ابنة أخته "حذام" في توثيق بعض الأكلات الشامية في نهاية الكتاب، ليقف قارئ الكتاب على طعام العرب قبل ألف سنة وطعامهم في ستينيات القرن الماضي. 

ألّف كتاب "الطبيخ والمأكل" محمد بن الحسن الكاتب البغدادي، سنة 623 للهجرة (1226 ميلادي)

المطبخ العباسي بين الترف والتنوّع 
ألّف كتاب "الطبيخ والمأكل" محمد بن الحسن بن محمد بن الكريم الكاتب البغدادي، ونشره في العشر الأخير من ذي الحجة سنة 623 للهجرة (1226 ميلادي) ووُجدت نسخته الأصلية في خزانة كتب جامع آيا صوفيا في إسطنبول. 
ولا يخفى على متتبع التاريخ الإسلامي أن العصر العباسي كان عصر ترفٍ وثراء ثقافي وفني، حيث ازدهرت الفنون والعلوم، واستقرّت أحوال الإمبراطورية الإسلامية، ما أتاح للمجتمع التفرّغ لتطوير أساليب العيش، ومنها فنون الطبخ، إذ تحوّل الطعام إلى فنٍّ راقٍ يجمع بين الذوق والجمال والطعم.
في هذا الإطار، لعبت دمشق دوراً محورياً، إذ كانت مركزاً حضارياً وثقافياً مهمّاً ساهم في تشكيل هوية المطبخ العباسي، نقلت دمشق إلى بغداد تقاليد الطهو الشامي الغني، فأدخلت نكهاتٍ جديدة وأطباقاً اعتمدت على الأعشاب والتوابل والخضراوات، فالمطبخ العباسي استوعب تقاليد الطهي من بلاد فارس، وبلاد ما بين النهرين، والمغرب، والهند، ودمشق أيضاً، ولذلك ظهرت أطباق جديدة تماماً، تعتمد على التوابل، والأعشاب، والمكسرات، واللحوم المطهية بطرق فنية معقدة.
ومن بين الأكلات التي حافظت على بقائها في مطبخنا منذ العصر العباسي إلى اليوم: المجدرة، الرشتة، الفريكة، المقلوبة، السمبوسك وغيرها.
المخلّلات والأصباغ والمطيبات في كتاب البغدادي
يحتوي كتاب البغدادي على أكلات ونكهات فريدةٍ عديدة تستحق التجريب، لكنه خصّص اهتماماً خاصاً للمخلّلات، واصفاً لها أنواعاً كثيرة تُستخدم بين الأطعمة، ليس فقط لتحسين الطعم، بل أيضاً لتُغسل دهانة الفم، وتُهضم الطعام، وتُمرّي الآكل.
ومن بين هذه المخلّلات، أثار فضولي مخلّل النعناع، الذي وصف البغدادي طريقة صنعه بدقة: يُستخدم النعناع الغربي ذو الأوراق الكبيرة، تُغسل أوراقه جيداً لإزالة الأوساخ، ثم تُنقع في الخلّ. يُوضع المزيج في وعاء زجاجي نظيف ومُحكم الإغلاق، ويُضاف إليه قليل من الزعفران وبعض البهارات الناعمة، ما يمنحه لوناً جذّاباً وطعماً مميزاً.
إلى جانب ذلك، يُقال إن شرب ماء هذا المخلّل ينعش الجوف ويساعد على ضبط الرطوبة الزائدة في الجسم، ما يجعل منه أكثر من مجرّد مكمل للطعام، بل علاجاً تقليدياً مرتبطاً بالصحة.
حذام ودور النساء في حفظ المطبخ الدمشقي وتطويره
لم تكن حذام، ابنة أخت فخري البارودي، مجرّد مساهمة عابرة حين أضافت بعض أكلات شامية في نهاية الكتاب، بل كانت تمثّل امتداداً لذاكرة نسائية جماعية ساهمت في حفظ تراث الطبخ ونقله عبر الأجيال، وقد حرص البارودي على ذكر دورها صراحةً في مقدمة كتابه، في بادرة تنمّ عن نبل ووعي بأهمية هذا الدور، خصوصاً في ظل الغياب المتكرّر لأسماء النساء عن كتب التراث والتاريخ.
في المطبخ الدمشقي، كانت الجدّات يورّثن وصفاتهن شفهياً، ويطبخن بالحواس لا بالمقادير: العين لتقدير الكمية، الأنف لتمييز النكهة، والأذن لسماع نضج الطعام، لم تكن هناك موازين دقيقة، بل "رشّة ملح"، "كمشة رز"، وجرعة كبيرة من الحب، ومن هنا تتجلّى أهمية ما قامت به حذام حين دوّنت تلك الوصفات المتناقلة شفهياً، وثبّتتها في كتابٍ يحفظها من الضياع.
ومن سماتٍ لافتةٍ في المطبخ الدمشقي حرص النساء على عدم الهدر وإعادة تدوير الطعام، إذ يتحوّل الخبز اليابس إلى فتّات عديدة، تبدأ بالتسقية الشهيرة، وهي فتة الحمّص، ولا تنتهي باللسانات والباذنجان والدجاج، وأي شيء آخر. أو يُقطّع مع العدس ليصبح "حرّاق إصبعه" أو مع الخضار ليُصبح "فتّوش"، في ممارسات يومية تعبّر عن احترام عميق لـ"النعمة"، متجذّر في الثقافة الشامية، يتجاوز الطهي ليصبح موقفاً أخلاقياً من الحياة.

باباغنوج
 يُشوى الباذنجان على النار، ثم يُقشر ويُدق، ثم يُضاف إليه الثوم المدقوق وعصير الرمان وقليل من الثوم والمقدونس (البقدونس) المفروم مع الملح. بعد ذلك يُسكب في أوعية ويُزيَّن بحبات الرّمان والمقدونس (والبقدونس) المفروم، ويوضع فوقه مقدار من الزيت النِّيئ.

المساهمون