"غوانتانمو الجديد"... معتقلون أوروبيون أطفال ونساء في سورية

"غوانتانمو الجديد"... معتقلون أوروبيون أطفال ونساء في سورية

31 ديسمبر 2020
هل يحاسَب الأطفال بأفعال أهلهم؟ (جيوزيبي كازاتشي/ فرانس برس)
+ الخط -

يصعب على جدين دنماركيين من أصل عربي فهم بقاء أحفادهما الصغار (دون 12 عاماً) نزلاء مخيم الهول، الذي يصفه كثيرون بالمعتقل، بين الحدود السورية والعراقية، بعد أكثر من 3 أعوام على مقتل ابنهما (والد الأطفال) في معارك بين تنظيم "داعش" والتحالف الدولي. بالنسبة لهذين الجدين، لا جدال حول الخيار الخاطئ للابن القتيل، لكنّ ما يثير حزنهما اليوم أنّ "غوانتانمو أوروبا"، وفقاً لما تطلق مؤسسات حقوقية وصحافية على سكان مخيمي الهول وروج وغيرهما، بات يتسبب بشعور بالمرارة والخوف على مستقبل الأحفاد وأمهم. فمعظم التقارير الحقوقية والإنسانية تشير إلى أنّ أعراض ما بعد الصدمة، وغيرها من الاضطرابات النفسية، باتت منتشرة بين النساء والقصّر في مخيمات تضم عشرات الآلاف، من دون رعاية صحية أو غذائية أو حقوقية. في المخيمين الرئيسين، وعدد من المخيمات الأصغر، أكثر من 73 ألف إنسان، 90 في المائة منهم من النساء والأطفال، و65 في المائة من هؤلاء الأطفال دون 12 عاماً، أما الأوروبيون من بينهم فلا يشكلون سوى أقل من ألف إنسان، من بينهم 640 طفلاً و230 امرأة من جنسيات أوروبية مختلفة. مع ذلك، فإنّ أقاربهم ومحاميهم ومنظمات حقوقية وأحزاب يسارية ينظرون بريبة إلى سياسة أوروبا الرسمية المتخلية عنهم، والتي تحمّل الصغار مسؤولية خيارات الأهل، بدلاً من استعادتهم وإعادة تأهيلهم النفسي والاجتماعي عوضاً عن تركهم "فريسة لأفكار التطرف مستقبلاً"، فيما أعادت فنلندا وألمانيا قبيل أعياد الميلاد، في استعادتها بعض الأطفال والنساء من المخيمات، تحريك هذا الملف الشائك.

عودة إلى الأضواء
منذ أشهر، تخوض دول أوروبية عدة في نقاش أمني وسياسي واجتماعي حول "المنسيين" من أطفال ونساء القارة في مخيم الهول وغيره على الحدود السورية ــ العراقية. وعلى الرغم من أنّ تقارير استخباراتية أوروبية، من بينها دنماركية وألمانية وفنلندية وسويدية، تفيد مراراً، منذ العام الماضي، بأنّ هؤلاء الأوربيين المتبقين (عدة مئات من أطفال ونساء من جنسيات مختلفة) في المخيمات لا يشكلون خطراً أمنياً على مجتمعاتهم في حال استعادتهم، فإنّ بطء التحرك الأوروبي "يشكل خطراً فعلياً على هؤلاء القصّر المتروكين لأمراض نفسية وصدمات يمكن أن تتحول إلى تطرف"، بحسب خبير الشؤون الإرهابية في الأكاديمية السويدية للدفاع، ماونوس رانستروب، وهو ما ذكّر به المبعوث الفنلندي إلى سورية، يوسي تانر، بعدما تمكن يوم 20 ديسمبر/ كانون الأول الجاري من جلب 20 من الأطفال و6 من الأمهات من فنلندا وألمانيا، مع بقاء مئات الحالات من دون حلّ حتى نهاية 2020.

هذه الخطوة سلطت الضوء مجدداً على قضايا هؤلاء، والمصاعب الجمة التي تلاحق الصغار "ممن لا ذنب لهم في أنّهم وجدوا في مناطق سيطر عليها داعش"، بحسب تانر. وإذا كانت حكومة يسار الوسط، الاجتماعي الديمقراطي، برئاسة سانا مارين، في هيلسنكي، قد اعتبرت أنّ "عملية جلب 6 أطفال ووالدتين تعني أنّ السلطات تقوم بواجبها (حصة فنلندا في العملية المشتركة مع ألمانيا)"، فإن حكومة يسار وسط أخرى في اسكندينافيا تقف موقفاً متشدداً ومنتقداً للأمم المتحدة. ففي كوبنهاغن، وعلى الرغم من أنّ الاجتماعية الديمقراطية ميتا فريدركسن أطلقت على نفسها بعيد انتخابها في 2019 "رئيسة وزراء الأطفال"، تدور عاصفة من الانتقادات الحقوقية والحزبية، تطاول حكومتها في الإصرار على عدم التحرك منذ عام 2017 خطوة واحدة لمساعدة نساء وأطفال البلد المحتجزين في مخيمات تصفها تقارير حقوقية وإعلامية بالمأساوية.

في مخيم الهول عام 2019 (دليل سليمان/ فرانس برس)
في مخيم الهول عام 2019 (دليل سليمان/ فرانس برس)

في مارس/ آذار الماضي، كرر جهاز الاستخبارات الدنماركي "بيت" رأيه في أنّ جلب أطفال وأمهات دنماركيين محتجزين في الهول "لا يشكل خطراً على أمن البلاد". وعلى الرغم من أنّ الأمم المتحدة طالبت الدول الأوروبية بتحمل مسؤولياتها وفقاً للمواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل، فإنّ الإصرار على ترك هؤلاء لمصير قاتم يبقي على القضية رهينة مواقف متشددة ومساومات، من جانب قوات سورية الديمقراطية "قسد" التي تسيطر على المخيمات، استمرت طوال ثلاثة أعوام، وتتمحور حول ما يشبه اعترافاً بأمر واقع في شمال شرقي سورية، وفتح مكاتب تمثيل باسم "العلاقات الخارجية لكردستان الغربية (في سورية)". ورفضت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل طعن حكومتي كوبنهاغن وباريس، وغيرهما، في إلزام الدول الموقعة على المعاهدات بـ"استعادة وحماية حقوق أطفالها من المخيمات". واستندت اللجنة الأممية في طلبها من الدول حماية الصغار إلى أنّ "الولاية القضائية على الأطفال، على الرغم من عدم وجود المخيمات تحت سلطة الدنمارك وفرنسا، تنطبق في الحالة المشار إليها على مواطني البلدين من الأطفال".
في حالة كوبنهاغن يجرى الحديث عن نحو 30 طفلاً دنماركياً وبضع نساء وجدن أنفسهن في سورية مع الأزواج الذين قتل أغلبهم في صفوف تنظيم "داعش"، فيما نصف الأطفال ولدوا في سورية، والنصف الآخر في الدنمارك، وتتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً. حكومة يمين الوسط السابقة (حتى ربيع 2019) ظلت تنتهج سياسة متشددة ترفض مساعدة مواطنيها الذين وجد بعضهم (من دون 12 عاماً) بلا أهل، إذ فقد الوالدان، وتتولى رعايتهم أمهات أوروبيات أخريات. وما يسري على الحالات الدنماركية يسري على الفرنسية والسويدية والألمانية والهولندية، وغيرها من جنسيات أوروبية. 

معظم الأطفال الأوروبيين في مخيمات شمال شرقي سورية هم دون الخامسة


أسقطت حكومة يمين الوسط الجنسية عن أهالي الصغار، بأحكام إدارية هي اليوم أمام محاكم الاستئناف بمرافعات محامين دنماركيين زاروا موكليهم في الهول، وخرجوا بشهادات مروعة عن الوضع. فيما سحب جنسية الكبار، ومنهم قتلى ومفقودون، لا يراه خبراء الأمم المتحدة أو الحقوقيون المحليون، بمن فيهم المركز الدنماركي لحقوق الإنسان، ينسحب على الصغار. وخلال الأسابيع الأخيرة من 2020 تعرضت رئيسة الوزراء الدنماركية، فريدركسن، لانتقادات حقوقية وسياسية بسبب تكرارها جملة: "هؤلاء الأطفال اختار أهاليهم إدارة الظهر للدنمارك ولا شأن لنا بهم". تصريحات استدعت حتى من معسكر الليبراليين بالتوافق مع اليسار إلى جلسات استماع برلمانية في منتصف ديسمبر/ كانون الأول، خصوصاً أنّها تصريحات تلمّح إلى تحميل الأطفال ذنب ما ارتكبه أهاليهم.
ويتسلح المدافعون عن ضرورة تحمل الدولة الدنماركية مسؤولياتها تجاه أطفال مخيم الهول بشهادات الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية، وتقارير أمنية أوروبية، بما فيها مركز "أبحاث الإرهاب"، التابع للاستخبارات الدنماركية، من أنّ بقاء هؤلاء في تلك الظروف "سيجعل من قابلية التوجه الراديكالي لديهم أكثر مما لو جرى جلبهم ومعالجتهم نفسياً وإعادة تأهيلهم اجتماعياً وإلحاقهم بالمدارس". اليسار الدنماركي، في حزبي "اللائحة الموحدة" و"الشعب الاشتراكي" استدعى وزير الخارجية، ييبا كوفود (يسار وسط)، لجلسة استماع برلمانية بشأن تكرار تصريحات تخلي الدنمارك عن مسؤولياتها. أعاد كوفود تأكيد ما ذكرته رئيسة حكومته، فريدركسن، من أنّ "الخيار هو خيار الأهل، ولا يمكن وضع الأطفال في الواجهة، لاستدعاء مساعدة من الدنمارك". موقف كوفود أثار سجالاً جديداً بعد جملة انتقادات استمرت منذ شهرين حتى عطلة الميلاد، أعاد خلالها الجهاز الأمني الدنماركي، على خلفية تنفيذ زميليه في برلين وهيلسنكي عملية الترحيل بعد تقدير انعدام الأخطار، التأكيد مجدداً أنّ هذه الفئة "لا تشكل تهديداً لأمن الدنمارك، بل على العكس فإنّ تركها لمصيرها في الهول سيجعلها عرضة لصدمات نفسية وتطرف". موقف وضع الخارجية الدنماركية في جلسة إحاطة جديدة بدعوة اليسار لها إلى التصريح بأنّها "تستمع جيداً لتقرير المختصين الأمنيين".

ماذا يكون مصيرها؟ (دليل سليمان/ فرانس برس)
ماذا يكون مصيرها؟ (دليل سليمان/ فرانس برس)

ومثلما تجد المحاكم الفرنسية نفسها أمام عشرات القضايا المرفوعة بشأن نساء وقصّر تخلت عنهم باريس، بدأ محامون دنماركيون رفع قضايا مستعجلة لفرض قرارات ملزمة على حكومة كوبنهاغن لاستعادة مواطنيها الصغار من الهول.

حياة الانتهاكات في الهول
يستمر، منذ ثلاث سنوات، السجال حول "معتقلي" مخيم الهول وغيره في شمال شرقي سورية. فالتقديرات الحقوقية والإغاثية تقدر وجود نحو 73 ألفاً خلف سياج الهول، في ظروف "مأساوية" بحسب ما يتسرب من منظمات غير حكومية، وفي ختام جولات "شبه رسمية" أوروبية. وخلال تلك السنوات، وبحسب تقارير إعلامية سويدية وألمانية وفنلندية وفرنسية، تمحورت جولات "قنصلية" و"حقوقية" حول رغبة "قسد" في أن تفتح الأطراف الأوروبية قنوات اتصال رسمية، مع "العلاقات الخارجية" التابعة لتحالف المليشيات التي يغلب عليها الطابع الكردي، لحلّ مشكلة مئات من الجنسيات الأوروبية. 
الأرقام التي يمكن الوثوق بها حول الجنسيات الأوروبية تضمّنها آخر تقرير لـ"منظمة الحقوق والأمن الدولية" في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إذ أحصى 640 طفلاً و230 امرأة من الجنسيات الأوروبية المختلفة، فيما معظم الأطفال هم دون الخامسة، وتتطابق الأرقام ووصف الأوضاع في المخيمات مع تقارير أخرى، خصوصاً الصادرة عن أجهزة استخبارات أوروبية غربية.  

وتذهب بعض التقارير الصحافية، ومنها الفرنسية والألمانية والاسكندينافية إلى تسمية مخيمات الاعتقال التي تديرها "قسد" في الشمال الشرقي لسورية بـ"غوانتانمو أوروبا". التسمية التي تشبّه ما يجري في هذه المخيمات بتلك التي أنشأها الأميركيون في خليج غوانتانمو الكوبي بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، باتت تأخذ طريقها أكثر فأكثر في عناوين تقارير إعلامية وحقوقية. 
وعلى الرغم من أنّ نصف الأطفال تقريباً عاشوا نصف حياتهم خلف "سياج من ظروف غير إنسانية ووحشية، من دون أيّ حماية قانونية"، بحسب تقريرين حقوقيين لمنظمة "الحقوق والأمن" الدولية، فإنّ القائمين على هذه "المعتقلات" يقدمون صوراً في مقابلاتهم الصحافية عن الصغار كأنّهم "متأهبون للانتقام، وأمهاتهم يعلمنهم الانتقام" وفقاً لأحد تقارير صحيفة "دوماني" الإيطالية، نقلاً عن متحدث باسم "قسد". مثل تلك التقارير لا تسهّل على المحامين والمنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية الضغط على النظامين القضائي والسياسي في دول أوروبية لاستعادة الأطفال والنساء.
في المجمل، ومع نهاية 2020 يبدو أنّ الأصوات الحقوقية التي تصف تعامل أوروبا مع النساء والأطفال بأنّها "تقويض للقيم التي نحارب من أجلها بوضع الناس خارج القانون بحرمانهم من حقوقهم ونعاملهم بوحشية ومن دون إنسانية" بدأت تصل إلى مسامع السياسيين، خصوصاً أنّها معززة بتقارير أمنية. والأخيرة تحذر من أنّ استمرار مأساة مخيم الهول "تتطور إلى كارثة طويلة الأمد، وبقعة للتطرف الخطير الذي يمكن أن يغذي الجيل الآتي من الإرهاب المستوحى من داعش". وهو أيضاً ما حذرت منه أجهزة الاستخبارات الدنماركية والألمانية والسويدية وثيقة الاطلاع على ما يجري في "غوانتانمو أوروبا" في سورية.

المساهمون