استمع إلى الملخص
- رغم محاولات الوجهاء لإقناع النازحين بالعودة، تظل المخاوف من جرائم الانتقام والاعتقال قائمة، لكن الحياة بدأت تعود تدريجياً مع إطلاق سراح الموقوفين وفتح المدارس والمراكز الصحية.
- التحدي الأكبر هو تحقيق عودة طوعية وآمنة تعيد بناء الثقة المجتمعية وتجنب المنطقة فتنة جديدة.
لايزال النازحون من بلدتي صحنايا وأشرفية صحنايا في الريف الجنوبي الغربي للعاصمة السورية دمشق، يشعرون بعدم وجود ضمانات أمنية كافية تسمح بالعودة إلى بيوتهم، ويطلبون من جهاز الأمن العام تحمل مسؤوليته، وبسط سلطاته على كامل المنطقة شرطا للعودة.
وشهدت البلدتان نزوحاً كبيراً للأهالي المنتمين إلى الطائفتين الدرزية والمسيحية باتجاه مدينة داريا وقرى وبلدات ريف القنيطرة والعاصمة دمشق، على أثر الأحداث الأمنية التي شهدتها في مطلع مايو/أيار، والتي راح ضحيتها عدد من المدنيين وعناصر من جهاز الأمن العام، والتي تفجرت عقب انتشار تسجيل صوتي منسوب لأحد أبناء الطائفة الدرزية، وتحولت إلى اقتتال طائفي طاول معظم المناطق التي يقطنها الدروز في سورية، كما واكبها حملات تحريض وتجييش عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وتوجه وفد من وجهاء البلدتين قبل أيام إلى بلدة حضر في ريف القنيطرة، ذات الأغلبية الدرزية، وحاولوا إقناع النازحين بالعودة إلى ديارهم، لكن طلبهم قُوبل بالرفض، وأبدى النازحون تخوفهم من جرائم الانتقام، خصوصاً أن العديد من أبنائهم لا يزالون رهن الاعتقال، أو مطلوبين.
من صحنايا، يقول محمد السقعان، لـ"العربي الجديد": "لم أحمل السلاح يوماً، ولم أكن طرفاً في نزاع مع سوريين، وقد قضيت سنوات طويلة بعيداً عن أهلي في السويداء كي لا ألتحق بالخدمة الإلزامية، وأشارك بقتل السوريين، ومثلي كثيرين من أبناء صحنايا والأشرفية وجرمانا، واليوم أجد نفسي متهماً مثل العديد ممن لم يشاركوا بالأحداث الأخيرة. نحتاج إلى ضمانات من الدولة كي أعود مع أسرتي إلى منزلي، وأول هذه الضمانات هو وجود جهاز الأمن العام فقط في بلدتي، لأننا لا نثق سوى به، وقد شاهدنا بأعيننا كيف افتعلت مجموعات مسلحة غير منضبطة الأحداث في الأشرفية، واعتدت على حرمات البيوت".
ويؤكد السقعان على "ضرورة سحب السلاح من جميع المدنيين، وليس من أفراد فئة أو طائفة بعينها، وإلا فسنظل في خطر دائم، خاصة في غياب ضابطة عدلية وقانون صارم يحمي الجميع، والأهم هو تشكيل جهاز الأمن العام من جميع أبناء المجتمع السوري، خاصة في المناطق التي تتعدد فيها الطوائف والأعراق، وفي هذا مصلحة عامة للوطن، ويبعث الكثير من الأمان".
وتطالب السيدة أم محمد، وهي من الطائفة السنية، الحكومة بالوقوف ضد ما تصفه بـ"التحريض الممنهج"، وتقول لـ"العربي الجديد": "لم نشعر يوماً أننا مختلفون في صحنايا، َولم نشاهد أي تميز، بل تعايشنا معا في كل الظروف، واليوم أشعر مثل كثيرين من سكان المنطقة أننا نعاقب، ومن حق أهالي الضحايا أن ينالوا العدالة عبر تحقيق عادل يظهر المعتدي والمحرض على هذه الأحداث، وأن يلقى جزاءه، وسيكون هذا مقدمة لعودة الأهالي، وبسط الأمن والأمان".
بدوره، يقول المرشد الاجتماعي زيد أبو أمين لـ"العربي الجديد"، إن "المجتمع السوري لم يكن بهذه الحالة من الانقسام الطائفي قبل حكم عائلة الأسد، ولم يُعرف سوى بالاعتدال في الأفكار والمعتقدات، لكن سياسة الضغط والقهر التي مارسها نظام الأسد أنتجت أجيالاً من الشباب المتشدد غير المنضبط من جميع الطوائف، يختزن تاريخاً من الظلم، ويتوق لتفريغه من دون دراية أو وعي جمعي".
يضيف: "الضخ الإعلامي المثير والمحرض، وغياب لغة إعلامية وسياسية متوازنة في بلد لايزال يسعى إلى بناء أسس السلام والعدالة الانتقالية والمصالحة الاجتماعية، كلها أمور دفعت باتجاه التعبير الخاطئ، أو الانتقام والاقتتال. الجميع ضحية لنظام الأسد، وعلى السلطة الحالية بذل جهود مضاعفة لبسط سيطرتها، ومنع الانفلات الأمني، والسير قدماً لتحقيق العدالة الانتقالية لتخفيف حدة الانقسام وحقن الدماء".
ومن ريف دمشق، يرى الناشط المدني عمر المسكة، أن "عودة نازحي الأشرفية تشكل قضية إنسانية معقدة، وهي محفوفة بتحديات أمنية واقتصادية، إذ تُعد العودة مؤشراً على تحسُّن نسبي للأوضاع، وستخفف الضغط على المناطق المضيفة، لكن هناك مخاوف من الاعتقال، ومن غياب ضمانات حقيقية لسلامة العائدين". ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أن "العودة لا تخلو من استقطاب سياسي، فبعض الأطراف تروّج لها على أنها انتصار. النجاح هنا لا يقاس بالعودة، بل بتحقيق عودة طوعية وآمنة مدعومة بمراقبة محايدة ومن دون شروط مجحفة. التحدي الأكبر يكمن في تحويل العودة من حدث إعلامي إلى مسار مستدام يعيد بناء الثقة المجتمعية، ويجنب المنطقة فتنة جديدة، فالعودة ليست نهاية المطاف، بل بداية اختبار حقيقي لإرادة السلام".
بالصدفة البحتة، غادرت فاديا (45 سنة) إلى السويداء لزيارة شقيقتها قبل يوم واحد من أحداث أشرفية صحنايا، وعاشت أسبوعاً من القلق والتوتر بعيداً عن أسرتها التي نزحت نحو قرى جبل الشيخ، من دون أن يعلموا ماذا حل ببيتهم، أو متى يمكن أن يجتمع شملهم مجدداً.
وتقول لـ"العربي الجديد"، إن "مشكلة أهالي الأشرفية وصحنايا معقدة، وغالبيتهم في حيرة من أمرهم. شخصياً، لا أستطيع العودة بسبب عدم فتح طريق دمشق- السويداء أمام المسافرين، وأفراد عائلتي لا يزالون حائرين بين العودة والبقاء، على الرغم من كل التطمينات التي يبثها الوجهاء الذين دعوا الجميع للعودة، أو على أقل تقدير الرجوع لمعرفة ما حل ببيوتهم".
وكشف أحد النازحين أنه عاد إلى الأشرفية، وتفقد منزله ومنازل أشقائه، ويؤكد أن الأوضاع جيدة، بينما هناك تضليل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي. يتابع: "ليس هناك بديل عن المنزل، ولا يمكن أن نواصل العيش عالة على أقاربنا في قرى جبل الشيخ، لكن على الحكومة أن تفي بوعودها، وتفرج عن الموقوفين، وتعوضهم، وتفتح مكاتب الحوالات المالية كي تقنع السكان بأنهم ليسوا تحت حصار اقتصادي. الثقة تتطلب أيضاً محاسبة المسلحين الذين هجموا على المدنيين، ونهبوا البيوت، وهذه مسؤولية وزارة الداخلية".
والاثنين الماضي، أطلقت وزارة الداخلية سراح دفعة ثالثة من الموقوفين على خلفية الأحداث في صحنايا وأشرفية صحنايا، وشملت 22 شخصاً، وذلك بحضور إدارة منطقة داريا وعدد من الوجهاء. ونقلت وكالة الأنباء الرسمية "سانا"، عن مسؤول منطقة داريا، جميل مدور، أن "الحياة عادت إلى طبيعتها في صحنايا وأشرفية صحنايا، وتوجَّه التلاميذ إلى مدارسهم، كما فتحت المراكز الصحية أبوابها. سيتم إطلاق سراح جميع الموقوفين ممن لم يتورطوا في سفك الدماء".