عندما تنفجر ألغام التاريخ في الساحل السوري

21 ابريل 2025
عناصر من قوات الأمن السورية عند شاطئ اللاذقية (9/3/2025 فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهد الساحل السوري في 6 مارس 2025 هجمات دموية على المدنيين من فصائل غير منضبطة، مما دفع العلويين للتفكير في طلب حماية أجنبية، في ظل توترات تاريخية مع السنة منذ تأسيس دولة العلويين في 1920.

- تأسست دولة العلويين تحت الانتداب الفرنسي، مع اتفاقية 1936 التي منحت اللاذقية استقلالًا ماليًا وإداريًا، لكن ضمها إلى سوريا في 1945 جاء بعد ضغوط سياسية.

- بعد سقوط النظام الأسدي في 2024، تصاعدت التوترات بين العلويين والسنة، مما يبرز الحاجة إلى نظام حوكمة لامركزي يحترم التنوع الثقافي والديني في سوريا.

طرحت الأحداث الأليمة التي اشتعلت ليلة 6 مارس/ آذار 2025 في الساحل السوري مزيداً من الأسئلة المتعلقة بالاجتماع السوري عامة، وفي المنطقة الساحلية على وجه الخصوص، بما في ذلك تحوّل المزاج الشعبي السوري العلوي نحو التفكير في طلب حماية أجنبية، وذلك بسبب ما اقترفته في مدنيين عزّل بدموية فصائل غير منضبطة أو تابعة للفصائل المنضوية تحت مسمى وزارة الدفاع في الدولة السورية الجديدة، والتي اتخذت من المدن الساحلية منطلقًا لها للتنكيل بالقرى العلوية المحيطة، بعد هجوم مجموعة من فلول النظام على مواقع عسكرية تابعة للسلطة وحواجز الأمن العام.

تهدف هذه السطور إلى تقصي العلاقة التاريخية بين سنة المدن الساحلية والعلويين منذ تشكيل دولة العلويين في عام 1920 وحتى التحاقها التام بالدولة السورية أواخر عام 1945، ومحاولة الربط بين مجريات الأحداث الحالية والالتفاف على ما نصت عليه معاهدة 1936 من استقلال مالي وإداري لمحافظة اللاذقية.


دولة العلويين
بعد حوالي عامين من نزول قواتها في اللاذقية، أنشأت سلطة الانتداب الفرنسية دولة للعلويين في 2 سبتمبر/ أيلول 1920، ثم أنشأت ثلاث دول سورية أخرى (دمشق وحلب وجبل الدروز). كان إنشاء دولة خاصة بالعلويين نقلة نوعية في تاريخهم السياسي أسهمت في تعزيز الهوية العلوية وتطويرها، ولم يكن سقفهم آنذاك يتجاوز التبعية المباشرة لرؤساء عشائرهم.
أُطلقت على هذه الدولة تسميات عدة بين عامي 1920 و1936، وكان إطلاق تسمية حكومة اللاذقية في 1930 للتخفيف من تسمية دولة يشكل فيها العلويون أغلبية الثلثين فقط. كان للمنطقة الغربية من سورية ما يميّزها بالفعل، ومنه ارتباطها التاريخي بساحل سورية الطبيعية الجنوبي (لبنان وفلسطين)، بحكم التقسيمات الإدارية في العهدين المملوكي والعثماني، نظراً إلى تبعية سنجق اللاذقية لولاية طرابلس أو بيروت أو عكا، وليس للداخل السوري الذي كان يتبع لولايتي دمشق وحلب.

اشتكى العلويون بين عامي 1937 و1939 من أن بلادهم لم تحصل على الحكم الذاتي كما نصت عليه المعاهدة الفرنسية -السورية، وأن الحكم المركزي فُرض عليهم

أثار وضع الساحل السوري تحت الحماية الفرنسية المباشرة، المتمثلة بسلطة المفوض الفرنسي في بيروت، مخاوف سنة المدن الساحلية، فكانوا الداعم الأساسي لثورة الشيخ صالح العلي الذي كان قد آثر الاستجابة لدعوة الشريف حسين بن علي للهجوم على القوات التركية المنسحبة من سورية أواخر عام 1918، ومن ثم دعم ابنه الأمير فيصل مقاومة القوات الفرنسية من أجل أن يُتوج ملكاً على سورية. بذلك كانت ثورة العلي من مصلحته الشخصية ومصلحة فيصل ومؤيديه من سنّة المدن الساحلية، لكنها أوحت بوجود تيار علوي عريض مؤيد للوحدة، الأمر الذي لم يكن واقعيّاً آنذاك. ففي بداية 1920، كان التيار الوحدوي بقيادة صالح العلي ضعيفاً بين العلويين، ولو أنه كان مدعوماً من زعامة عشيرة المتاورة في مصياف وقليلين من الزعامات العلوية الأخرى، بينما كان التيار الاستقلالي العلوي هو الأقوى، وقد فضّل أنصاره العمل في إطار دولة العلويين أو الانضمام إلى دولة لبنان الكبير، التي كانت قد تأسست في أغسطس/ آب 1920. لكن، وعلى أرضٍ سياسية متحرّكة باستمرار، فاز التيار العلوي الوحدوي في نهاية فترة الانتداب، بشرط تحقيق الاستقلالين، الإداري والمالي، لمحافظة اللاذقية حسب ما جاء في معاهدة 1936، إذ اشترط مرسوم ضم محافظة اللاذقية إلى سورية أن يكون لها ميزانية خاصة ونظام إداري خاص و16 نائباً في البرلمان.
وفي أثناء محادثات 1936، قامت في محافظة اللاذقية مظاهرات رافضة للوحدة ومظاهرات أخرى مؤيدة لها، كما أُرسلت البرقيات والعرائض إلى عصبة الأمم المتحدة والعواصم الفاعلة، معبرة عن قلق الأقليات بشأن توحيد سورية، وذلك بينما كانت المباحثات تجري بين الفرنسيين الذين أرادوا أن يكون للعلويين وضع خاص مع الإبقاء على حامية عسكرية فرنسية في المنطقة، ووفد الكتلة الوطنية التي تريد توحيد منطقة الساحل السوري مع سورية الأم بصورة تامة، فكان الاتحاد مع سورية بشرط الاستقلال المالي والإداري حلًّا وسطًا .
وخطت الأخيرة خطوتين متكاملتين للتقريب بين العلويين والكتلة الوطنية، فعيّنت حليفها العلوي عزيز هواش محافظًا لدمشق (1936)، بينما أعطت زيارة "وفد بلاد العلويين" إلى دمشق دفعاً جديداً لأنصار الوحدة، وذلك بما حظي به الوفد من تكريم واهتمام إعلامي، فعقد، فور عودته إلى الساحل، اجتماعين سياسيين في كل من القرداحة وطرطوس للتشجيع على الوحدة مع سورية، ولكن بشرط الاستقلالين، المالي والإداري، المذكورين آنفاً.
وكان الخلاف حول القوانين العلمانية التي وردت في المرسوم الانتدابي رقم 60 (1936) قد احتدم بين العلمانيين والدينيين في ظل سلطة الانتداب، إلى أن حسمت حكومة لطفي الحفار، التي خلفت حكومة جميل مردم بك في فبراير/ شباط 1939، المسألة، وشكلت لجنة لدراسة نظام الطوائف، فأقرّت اللجنة العودة إلى الشريعة الإسلامية. وافق المفوض السامي على إلغاء العمل بالمرسوم 60 وحصر تطبيقه بغير المسلمين فقط، 30 مارس/ آذار 1939. وبما أن مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، كان قد أصدر فتوى في يوليو/ تموز 1936 اعتبر فيها العلويين مسلمين، ربما كان ذلك مثل رشوة لقبولهم الانضمام إلى سورية، فلم يعودوا يشكلون طائفة مستقلة وانضووا في إطار الشريعة الإسلامية طائفة مسلمة.


الكتلة الوطنية تناور
اشتكى العلويون بين عامي 1937 و1939 بأن بلادهم لم تحصل على الحكم الذاتي كما نصت عليه المعاهدة الفرنسية -السورية، وأن الحكم المركزي فُرض عليهم وتجاهلت السلطات حقوقهم. وفشل محافظ اللاذقية إحسان الجابري في تهدئة الوضع ولم تتعدَّ سلطاته مدن الساحل، فأُقيل عام 1939. وفي 12 يناير/ كانون الثاني 1942 ضمتْ محافظة جبل العلويين رسميّاً إلى سورية، ونشر النظام الأساسي لها بالقرار رقم 23/ ف. ل، والذي أُدرج ملحقاً لمعاهدة 1936، وجاء فيه أن هذه المحافظة تتمتع باستقلالين، مالي وإداري. ومن الواضح أن الكتلة الوطنية، ومعها معظم زعامات سنة الساحل، كانت تناور للتخلص من شرط الاستقلال المالي والإداري (النسبي) لمنطقة العلويين وتنتظر الفرصة المناسبة لتحقيق ذلك، مخافة أن تنفصل هذه المنطقة عن سورية الأم، ولا سيما أن غالبية سكانها من العلويين. وبقي الأمر معلّقاً بين مطالب الكتلة الوطنية التي تعتبر وحدة الأجزاء السورية "حقّاً جوهريّاً"، ومطلب الاستقلال الإداري والمالي لمنطقة الساحل السوري. ونظراً إلى أن العلويين كانوا منقسمين حول مسألة الوحدة، وأن فرنسا هي من فاوضت عنهم، عملت الكتلة الوطنية على النفاذ من هذه الثغرة والمضي في الإجراءات التي أفضت في النهاية إلى تمرير الوحدة التامة من دون مناقشة كافية في المجلس النيابي، واعتبار موضوع الحقوق الإدارية في الساحل السوري مجرد "وضع شاذ"!. ففي غمرة "الابتهاج الوطني" بقرب جلاء القوات الفرنسية عن سورية، أعلن نائب جبلة، جمال علي أديب، في جلسة البرلمان، 9 ديسمبر/ كانون الأول 1945، تنازل مقاطعته عن الاستقلالين، المالي والإداري، وحذا باقي نواب محافظة اللاذقية حذوه، بما في ذلك النواب العلويون. وبذلك انتصرت إرادة الكتلة الوطنية بصورة شبه قهرية، وإذا أضفنا إلى ذلك الممارسات القمعية لحكومة جميل مردم بك بحقّ العلويين بعد الجلاء، فربما ساهم ذلك، إضافة إلى عوامل أخرى، في تقويض حكم الكتلة الوطنية لاحقاً، من خلال سلسلة الانقلابات العسكرية التي كان للضباط العلويين دور مهم فيها.

سبّبت مرحلة الاستبداد الأسدي زيادة الشرخ الاجتماعي المكبوت بين العلويين والسنة، بسبب زيادة المساحة التي تحرك فيها العلويون في الفضاء الساحلي

اللحظة التي لم يتم اقتناصها
كان سكان محافظة اللاذقية في 1936 منقسمين بين من يريد الاتحاد مع سورية بصورة تامة أو شبه تامة ومن يريد الانفصال عنها بصورة تامّة أو شبه تامّة أيضاً، ولكن فكرة الحل اللامركزي، من خلال الاستقلال المالي والإداري، وحَّدت المتنازعين؛ أي العلويين والسنة والمسيحيين والإسماعيليين. بالفعل، كان خيار الحفاظ على خصوصية منطقة الساحل مناسباً لجميع سكانه، ويمكن أن يساهم في وحدتهم على أساس المصلحة، لكنه لم يكن ليتوافق مع سياسة الكتلة الوطنية التي حكمت سورية بُعيد الاستقلال، خاصة أن سورية الداخل كانت تحتاج إلى منفذ بحري. وفي هذه النقطة بالذات، تكمن استماتتها لضم الساحل بصورة تامة أواخر عام 1945. كما كان يمكن لما جاء في معاهدة 1936 أن يبدد النمطية التاريخية للعلاقة بين السنة والعلويين والمسيحيين في الساحل السوري. إنها اللحظة التاريخية التي لم تُلتَقط بسبب فيضان المشاعر العروبية التي ستتحول إلى "عماء سياسي" في العقود التالية.
من جهة ثانية، يمكن تفسير قبول النواب العلويين لإلحاق محافظة اللاذقية بلا شروط بالدولة السورية بعدة عوامل، أهمها شعورهم بضعف الدور الفرنسي وهيمنة الإنكليزي عليه في نهاية الحرب، علاوة على ما ارتكبته سلطة الانتداب في 29 مايو/ أيار 1945 بقصفها مدينة دمشق وتدمير البرلمان، بعد رفض الدولتين السورية واللبنانية توقيع اتفاقيات خاصة مع فرنسا، فقد أثار العدوان الفرنسي تضامناً وطنيّاً شمل مناطق العلويين أيضاً.
لاحقاً، سبّبت مرحلة الاستبداد الأسدي زيادة الشرخ الاجتماعي المكبوت بين العلويين والسنة، بسبب زيادة المساحة التي تحرك فيها العلويون في الفضاء الساحلي وامتيازات المرتبطين منهم بالسلطة الحاكمة، الأمر الذي انعكس سريعاً بعد سقوط النظام أواخر عام 2024، فسعى معظم سكان المدن من السنة إلى الاستقواء بالسلطة الجديدة، وشكل بعضهم نوعاً من الحاضنة الاجتماعية للفصائل المتطرّفة التي ارتكبت المجازر بحق المدنيين العلويين، في حين وقف آخرون إلى جانب جيرانهم العلويين، وتعرضوا للقتل أحياناً ثمناً لموقفهم الإنساني هذا.

أخيراً
كان شرط الاستقلال المالي والإداري لمحافظة اللاذقية هو الأمر الذي وافقت عليه جميع الأطراف في المحافظة، كما ورد أعلاه، وكانت لحظة مهمّة يمكن أن تحقق استقراراً مهمّاً مبنيّاً على مصلحة جميع سكان المحافظة. وربما لم يكن الاستبداد الأسدي ليجد له موطئ قدمٍ في سورية، بما تضمنه شرط الاستقلال المالي والإداري من خدمة للمجنّدين ضمن محافظتهم.
لم يعد بالإمكان الخروج من الحالة الراهنة باستخدام وصفات سياسية تقليدية، انطلاقاً من فكرة استمرار الحكم المركزي المعادل للاستبداد، إذ يحتاج الأمر إلى نوع من الحوكمة اللامركزية على كامل مساحة الدولة السورية، خاصة في المناطق الثلاث (الجزيرة والساحل وجبل الدروز)، التي عارض معظم سكانها الانضمام التام إلى الدولة المركزية، وظهر ذلك جليّاً بعد سقوط النظام الأسدي. يتيح النظام اللامركزي، بدرجاته المختلفة، حرية أكبر في إدارة المكونات السورية شؤونها الخاصة والحفاظ على تقاليدها وخصوصياتها الثقافية والدينية، في إطار المواطنة المتساوية للدولة المدنية الديمقراطية المتعثرة.

المساهمون