استمع إلى الملخص
- لقاء بين الشاعرين تشارلز سيميك وريتشارد هيوغو أثار تساؤلات حول هويتي كسوري وعربي، خاصة بعد موقف مع فتاة أوكرانية جعلني أتساءل عن مكاني في هذا العالم.
- الأطفال في الركبان، مثلهم مثل أطفال لينينغراد وبلغراد، يعيشون بلا لغة أو فرص حقيقية، مما يجعل الوطن حالة نفسية تتأرجح بين النجاة والموت، والذكرى والنسيان.
زرتُ مخيم الركبان قبل أسبوعين، بعد عودتي إلى بلدي سورية إثر غربة قسريةٍ امتدت أكثر من 12 عاماً.
هناك، في صحراء التنف. كانت السماء صافية ليلاً، ولأول مرة منذ سنوات طويلة رأيت الدبّ الأكبر والدبّ الأصغر بوضوح.
هناك، قرب المخيم، لم أجرؤ حتى على تخيّل نفسي محاصَراً في ذلك المكان. كيف يمكننا أن نسميه مخيّماً؟ وبيوته طينية تتآكل مع الريح؟
أخذتُ مكاناً نائياً لأخلو بنفسي، وتلفّحت بسترتي كي أحتمي من البرد الشديد، وسرحتُ بأفكاري. تذكّرتُ كيف أنني في طفولتي، قبل أن يغمرني النوم، كنت أتخيّلُ مصيبةً غامضةً تؤدّي إلى موتي، ثم أراقب، كطيفٍ حاضرٍ وغائبٍ في آن، من يحزنون لفقداني، وأسمع نحيبهم وكلمات الرثاء التي تُشيد بمناقبي. كنتُ أتأثّر وأبكي، وأجد في تلك الدموع شعوراً خفيّاً بالرضا، كأنني أعثر في الفقدان على محبةٍ افتقدتها، وعلى أهميةٍ ما كنتُ أبحث عنها. أهمية لا يصنعها الفعل أو البطولة، بل يمنحها الدم وصلة القرابة وحدهما.
لكنني هناك، قرب المخيم، لم أجرؤ حتى على تخيّل نفسي محاصَراً في ذلك المكان. كيف يمكننا أن نسميه مخيّماً؟ وبيوته طينية تتآكل مع الريح؟... كانت الخيمة تبدو أشدّ صلابةً وأكثر أماناً من تلك الجدران المتفتّتة. لفت انتباهي لون الطين المائل إلى الاحمرار، وكأنّ الأرض تحاول أن تقول شيئاً، فيما بعضهم يسيرون في شارع أو شبه شارع أطلقوا عليه تهكّماً اسم "شارع الحمراء"، لأنه يحوي بضعة محلات بقالة وأدوات بسيطة، وكأن مجرّد وجود بضاعة، أياً كانت، يكفي لمنح الشارع اسماً موارباً كأنه يأتي من زمنٍ آخر، أما المبنى المخصّص للعلاج، الذي يفترض أنه مشفى، فلا هو مشفى ولا حتى مأوى، كان بناءً مخيفاً، مجرّد مساحة فارغة، غير مهيأة لحياة بشرية على الإطلاق.
وقفتُ عند هذه النقطة، وقارنتُ بين حصار القصير، ثم حصار بابا عمرو، وهذا الحصار المتخيّل الذي يتربّص بأرواح مَن يعيشون في الركبان. شعرتُ بالفزع من المقارنة، وفضّلت ألف مرّة أن أكون تحت القصف، على أن تحاصرني العزلة المطلقة، وينعدم كل شيء إلا فكرة البقاء.
تذكّرتُ حكاية قرأتها قبل سنوات، عن لقاء عابر في الولايات المتحدة جمع بين الشاعرين تشارلز سيميك وريتشارد هيوغو. في لقاء أدبي سأل هيوغو صديقه: كيف قضيتَ صيفك؟ فأجابه سيميك: "عدتُ للتو من بلغراد".
قال هيوغو: "أعرفها جيداً"... ولم يكن يدري أنه يعرفها من علوّ، من نوافذ الطائرات. بدأ سيميك يرسم فوق الطاولة بفتات الخبز وبقع النبيذ معالم المدينة كما يتذكّرها، فأدهشه هيوغو باعترافه: "أنا لم أزرها، لكنني قصفتها"، في لحظة مواجهة نادرة، قال له سيميك: "لقد كنت هناك طفلاً، وكنت أنت تقصفني". هكذا شرح هيوغو كيف كانت الطائرات الأميركية تقلع من إيطاليا لقصف حقول النفط في رومانيا، وعند عودتها تلقي ما تبقّى من حمولتها فوق بلغراد لتخفيف وزنها.
استرجعتُ ذلك الموقف وأنا أنظر إلى سماء الركبان. هل أنا سوريٌّ فحسب؟ أم عربيٌ؟ أم مجرّد كائن تائه في مصادفات التاريخ؟
يعود الطيارون مساءً ليقضوا أوقاتهم على الشاطئ، بينما يختبئ الأطفال تحت الأرض، يتعلّمون أسماء القنابل قبل أن يتعلموا أسماء الفصول، ثم كتب هيوغو قصيدة طويلة أهداها لسيميك، تبدأ باعتراف نادر: "عزيزي تشارلز.. هكذا تقابلنا في سان فرانسيسكو، وأنا أعرف أنني قصفتك في بلغراد عندما كنت في الخامسة/ أتذكّر بلغراد تتفتح مثل وردة عندما وصلنا./ ما هي كلمة "خوف" بالصربية؟ لا بدّ أنها تشبه الإنكليزية:/ عويل طويل، وصوت أطفالٍ يحتضرون، ونظرة طفل ثابتة إلى الأبد في الموت./ أنا لا أعتذر عن الحرب أو عن مَن كنتُه/ كنتُ مشوّشاً عن طيب خاطر/ آمنتُ بالبطولة للآخرين لا لنفسي/ صدّقتُ ضرورة هذا العالم المعذّب/ آملاً أن يتعلم ألّا يفعل ذلك مرّة أخرى/ لكنني كنتُ صغيراً/ والعالم لا يتعلم أبداً".
في تلك الليلة قرب الركبان، وبينما الدبُّ الأكبر والدبُّ الأصغر يراقبان الأرض من علٍ، لم أستطع الهروب من فكرة المصادفات العنيفة، تلك التي تجعل طفلاً يحتمي من قصفٍ يقوده طيار لم يكرهه يوماً ولم يعرفه. طيارٌ يعود إلى احتساء الجعّة على الشاطئ بعد أن يفرغ سماء المدينة من أمنها.
تذكّرتُ أيضاً تلك الفتاة الأوكرانية التي التقيتُها أيام الدراسة. خرجنا في صباحٍ ربيعيٍّ طافحٍ بالجمال، حيث الزهور تتفتح لمجرّد مرورنا بقربها، والفراشات تتخذ من نقشات فستانها مأوى مؤقتاً.
جلستُ مثل شون كونري، وطلبتُ القهوة كعزّت العلايلي، بينما جلسَت هي مثل ميريل ستريب وطلبت الكابوتشينو كداليدا.
مرّت النادلة الحسناء كمادلين طبر، وحين ابتعدت سألتني الفتاة: "جتفان… أنت من وين تماماً؟". أسندت مرفقيها إلى الطاولة ووضعت كفّيها تحت ذقنها بنظرة ساهية كنظرة نيكول كيدمان. اقتربتُ منها وغمزتُ بثقة عمر الشريف: "أنا من سورية". عندها فحسب، ارتسمت على وجهها ملامح ارتياحٍ مباغتٍ وفرح يشبه ملامح كيت وينسليت في مخزن سيارات "تايتنك"، قالت لي: "الشكر لله… كنتُ خائفة أن تكون عربياً!".
استرجعتُ ذلك الموقف وأنا أنظر إلى سماء الركبان. هل أنا سوريٌّ فحسب؟ أم عربيٌ؟ أم مجرّد كائن تائه في مصادفات التاريخ؟ هل أنا الطفل الذي يلوّح للطيار، أم الطيّار نفسه؟ هل أنا السوري المحاصر في الركبان؟ أم الأوكراني الذي نجا للحظة من فخ هويته؟ أم أنني مجرد انعكاس لطفل من حصار لينينغراد؟
لم يكن حصار لينينغراد مجرّد معركة، بل كان حصاراً ضد الحياة نفسها. لم يكن الموت يأتي بالقذائف فحسب، بل بالجوع المتربّص خلف كل باب، بالعائلات التي أكلت قططها، ثم قطط الجيران، ثم لحم موتاها. لا يعيد التاريخ نفسه شكلياً فحسب، بل يعيد جوهره. تصبح الحياة نفسها معجزة، ويحتاج البقاء تأشيرة عبور من الموت.
في الركبان، كما في لينينغراد، وبلغراد، وبابا عمرو، وأوكرانيا، وفي كل الأمكنة التي صارت تواريخ دامية، يقف الأطفال في المنتصف، بلا لغةٍ تكفيهم، وبلا فرصةٍ للحياة إلّا بالمصادفة.
ربما الوطن، في جوهره، لم يكن قطعة أرضٍ أو نشيداً أو جواز سفر. الوطن حالةٌ نفسية، مكانٌ عالقٌ بين السماء والأرض، بين المخيّم والحصار، بين النجاة والموت، بين الذكرى والنسيان. ...وطنٌ يولد حين يظهر الدبّ الأكبر والدبّ الأصغر فوق صحراء التنف، ويموت حين تصير النجوم ثقوباً في سقف خيمة طينية. ذلك هو الوطن: ارتجافة قلبٍ مع تحليق الطائرات، وصوت أم تسأل: هل نجوْنا اليوم؟