Skip to main content
طرابلس لبنان... فقدان الأمن الاجتماعي بسبب التهميش الحكومي
صهيب جوهر ــ طرابلس (لبنان)
تُعَدّ المدينة الأكثر فقراً على ساحل البحر الأبيض المتوسط (جوزيف عيد/ فرانس برس)

في تصنيف سابق للبنك الدولي، عُدّت طرابلس اللبنانية المدينة الأكثر فقراً على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وبعدما استعادت أنفاسها بعض الشيء، ها هي تفقد من جديد أمنها الاجتماعي.

منذ أشهر قليلة، راحت مدينة طرابلس الواقعة في شمال لبنان تتحوّل إلى ما يشبه مدينة أشباح، نتيجة تخلي الدولة ومؤسساتها عنها وتهميشها تاريخياً، علماً أنّها كانت قد أزيلت في مطلع العام الجاري عن لائحة المدن الخطرة وفق التصنيف الأميركي والأوروبي، فزارها سفراء دول أجنبية وعربية. ويأتي سوء الواقع الاقتصادي ليساهم في تدهور معيشة أبناء المدينة الأكثر فقراً على الساحل اللبناني. وتُسجَّل إلى جانب ذلك نسب مرتفعة من التسرّب المدرسي إلى جانب أخرى مرتفعة كذلك من البطالة، مع غياب معالجة الملفات الأمنية والاجتماعية، بالتالي تدفع الفوضى أهل المدينة وسكانها إلى تغيير قواعد العيش وسط بعض عمليات سلب وقتل.

كريم الحسن، من سكان مدينة طرابلس، وهو تاجر مفروشات، يقول لـ"العربي الجديد": "اضطررت إلى اتخاذ تدابير احترازية على صعيد المنزل والمتجر، حتى في أثناء تجوّلي في السيارة". ولا يخفي كريم أنّه يعيش "حياة جديدة منذ أشهر، نتيجة تزايد أعمال السلب والجرائم. فأصدقاء لي تعرّضوا إلى السرقة أو إلى محاولات سرقة من قبل شبّان على متن درّاجات نارية، وقد بات هؤلاء متحكّمين بالمدينة. لذا صرت أقفل متجري كحدّ أقصى عند الساعة السابعة مساءً، فيما توقّفت وزوجتي عن رياضتنا المسائية، إذ بات المكان موحشاً ومعتماً".

من جهتها، تخبر ريان ذوق "العربي الجديد"، بأنّها تعمل في مطعم في منطقة الضم والفرز، في الشارع التجاري الأساسي في المدينة، "وأنا مضطرة إلى العمل يومَين بدوام ليلي". تضيف: "فأنا رفضت العمل أربعة أيام بذلك الدوام، بعد إصرار أهلي وخطيبي على ذلك، خصوصاً أنّ الشارع شهد كما متفرّعاته عشرات أعمال السلب مساءً، من قبل شبّان يتجوّلون إمّا على درّاجاتهم النارية وإمّا سيراً على الأقدام كعصابات في الظلام. فانقطاع الكهرباء أدّى إلى انطفاء إنارة الشوارع الليلية". وتعبّر ريان عن خشيتها من أن "تصير طرابلس مستقبلاً غير مؤهلة للعيش بأمان، خصوصاً أنّها تفتقر إلى دوريات للقوى الأمنية والجيش في المدينة منذ فترة، وهذا أمر يسبّب خوفاً مستمراً لدى الناس على المستقبل القريب".

"عروس الثورة" بعد عامَين (خليل سايركايا/ الأناضول)

أمّا مصطفى يمق، فيروي لـ"العربي الجديد"، ما حدث لجاره في المبنى السكني في منطقة أبي سمراء. يقول إنّ "عائلة جاري تعرّضت إلى عملية اقتحام من قبل عدد من السارقين الذين دخلوا البيت بأسلحتهم. وتمّت سرقة أموال ومجوهرات في غياب ربّ المنزل". ولا يخفي مصطفى خوفه على نفسه وعلى عائلته، "لذا عمدت إلى مجموعة من الإجراءات بالاشتراك مع جيراني في المبنى. فوضعنا كاميرات مراقبة وبدّلنا أقفال أبواب المداخل، وحدّدت مواقيت عودة أبنائي الثلاثة إلى المنزل، خصوصاً ابنتي، وهي طالبة جامعية". 

ويتساءل مصطفى عن "الواقع الأمني وتأثيره على العائلات عند استئناف الأعمال والدراسة، لا سيّما أنّ أعمالاً كثيرة تستمر حتى ساعات متأخرة من الليل". ويشير إلى أنّ "طرابلس، حتى في أيام الحرب وجولات القتال، كانت آمنة ونادراً ما كان الناس يسمعون بحوادث قتل وسلب بهذه الصورة المخيفة"، مستغرباً "غياب أجهزة الدولة وتخلّفها عن أداء واجبها تجاه المدينة وحمايتها، لا سيّما أنّها من أكثر المدن تأثراً بالانهيار الاقتصادي".

ليال، التي تفضّل عدم الكشف عن هويتها كاملة، من سكان طرابلس كذلك، وهي امرأة مطلّقة وأمّ لأربعة أطفال يسكنون معها في منطقة باب الرمل. تقول لـ"العربي الجديد": "صرت أوجّه أبنائي وأوصيهم باحتياطات عديدة، منها عدم حمل مبالغ مالية تفوق خمسين ألف ليرة لبنانية (نحو 33 دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف الرسمي، ونحو 2.7 دولار بحسب صرف السوق الموازية)، وعدم استخدام الهاتف في أثناء التجوّل كي لا يصيروا صيداً للسارقين على الدراجات، بالإضافة إلى التلفّت حولهم لتجنّب أيّ مفاجأة غير سارة. فأحد السارقين خطف من بين يدَيّ أكياس الطعام في وضح النهار ولاذ بالفرار، لذا صرت أخشى شراء حاجيات غالية الثمن بكمية كبيرة". وتؤكد ليال أنّ "المنطقة حيث نعيش، تغرق في العتمة والفقر والاكتظاظ السكاني، فيما تخلو من المارة عند الساعة التاسعة ليلاً، علماً أنّ السهرات كانت كثيرة في مقاهيها".

في سياق متصل، يرى أستاذ الاقتصاد في جامعة البلمند سامر الحجار أنّه "من غير الطبيعي أن تشهد مدينة بهذا الحجم وهذا الكم من السكان ما يجري"، مشيراً إلى أنّ "غياب الخطط وتغييب المشاريع الحيوية التي قد تحتضنها طرابلس والتي بمقدورها خلق آلاف فرص العمل مقصود وممنهج". يضيف الحجار، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، أنّ "المدينة دفعت وتدفع أثماناً كبيرة، والدراسات تشير إلى أنّ الواقع مؤلم أكثر من أيّ مدينة لبنانية أخرى، خصوصاً أنّ المناطق الشعبية تشهد انفلاتاً أمنياً نتيجة أسباب عديدة، أبرزها ضخّ المخدرات بما فيها الحبوب المهلوسة، معطوفة عليها نسبة البطالة المرتفعة التي تجاوزت 55 في المائة، فيما التسرّب المدرسي بات في ذروته". ويتابع الحجار أنّ "ثمّة تحذيرات أُطلقت قبل سنوات حول الواقع التعليمي في المدينة، لكنّ الدولة، برأيي، لا تريد إيجاد حلول لطرابلس، لأنّ ثمّة قراراً سياسياً بتهميشها وإظهارها خارجة عن السلطة. وهذا ما ترفضه المدينة بغالبيتها العظمى".

تدهور الأوضاع دفع معوزين إلى البحث في القمامة (إبراهيم شلهوب/ فرانس برس)

أمّا رئيس بلدية طرابلس رياض يمق، فيقول لـ"العربي الجديد"، إنّه "لا يمرّ يوم من دون تسجيل فلتان أمني في شوارع طرابلس، من جرّاء انعدام العيش الكريم للمواطنين في ظل انقطاع المحروقات والدواء والخبز والارتفاع الجنوني في أسعار معظم المواد الغذائية والاحتياجات الأساسية، وهو ما يضطر الناس إلى الوقوف في طوابير الذلّ أمام المحطات والصيدليات والأفران ومتاجر الأغذية". ويسأل يمق عن "تساهل الأجهزة الأمنية في ما يخصّ القيام بواجباتها لمواجهة كلّ أشكال الفوضى والسرقات وإطلاق الرصاص وإلقاء القنابل ليلاً ونهاراً، التي تضاعفت في الأيام الاخيرة لتمثّل خروقات أمنية خطيرة تستهدف الناس وأرزاقهم وممتلكاتهم". 

ويؤكد يمق أنّ مدينته "تعيش في بؤس على الرغم من المراجعات ورفع الصوت"، متسائلاً "هل يعقل أن تعيش طرابلس، العاصمة الثانية للبلاد، بلا كهرباء وخدمات، فيما المواطن الفقير يعيش وسط هذه الموجة العاتية من الأسعار الجنونية وهو لا يملك قوت يومه؟". ومن دون أن يبرّر يمق الحوادث وأعمال السلب، غير أنّه يراها "طبيعية في ظل انعدام الحلول واستعصائها".

قضايا وناس
التحديثات الحية

وهكذا تعيش مدينة طرابلس، شمالي لبنان، مآسي اجتماعية لا تنتهي. فالمدينة التي لُقّبت بـ"عروس الثورة" إبان انطلاق ثورة 17 تشرين قبل نحو عامَين (تشرين الأول/ أكتوبر 2019)، تعود إلى وحشتها كنتيجة حتمية لغياب أيّ معالجة فعلية للأزمات المتتالية فيها وفي البلاد ككل، وسط الانهيار الحاصل وغياب الدولة وعودة منطق "القوي بقوّته".