صيف العراقيين يفتقد "أبو الفقير"

صيف العراقيين يفتقد "أبو الفقير"

19 اغسطس 2021
صيف العراق احتياجاته كثيرة (محمد علي/ فرانس برس)
+ الخط -

لم يعد أحد في العراق اليوم يؤمن بالمقولة الشعبية الشهيرة "الصيف أبو الفقير" التي تتناقلها الأجيال، حين كان الصيف لا يتطلب الكثير مقارنة بالشتاء القاسي في بلاد الرافدين، حيث يكفي السكان ارتداء ملابس قليلة أرخص سعراً من تلك الشتوية، ويستخدمون وسائل بدائية لتلطيف الأجواء داخل المنازل، مع وفرة في المنتجات الزراعية الصيفية بخلاف تلك الشتوية.
يتذكر كبار في السن أنهم اعتادوا انتظار الصيف بفارغ الصبر، كي ينعموا بأجواء خالية من القسوة التي يعانون منها في الشتاء، خصوصاً في القرى.
في جعبة المعلم المتقاعد فيصل حسون (72 عاماً) الذي عمل في السلك 32 عاماً بقرية في محافظة بابل التي تبعد مائة كيلومتر من جنوب بغداد، قصص عدة عن العلاقة بين الفقراء والصيف. يقول لـ"العربي الجديد": "رغم تطور الحياة ووصول الكهرباء إلى بلدات بعيدة في ستينيات القرن العشرين، ظلت المجتمعات القروية الفقيرة تعيش في منازل من طين، وتستخدم مواقد حطب للتدفئة في الشتاء الذي يمنعها طقسه الشديد البرودة من مزاولة الأعمال الاعتيادية نحو ثلاثة أشهر سنوياً، وتشهد غالبية أيامه هبوط درجات الحرارة إلى ما دون الصفر.
من هنا، كانت شكاوى السكان لا تنتهي من الشتاء القارس. يقول حسون: "كان المزارعون يعملون في الصيف ويتكاسلون في الشتاء الذي يحمل الطقس غير الملائم للزراعة. كما كانوا يرتدون ما يملكون من ملابس لدرء البرد، وينتظرون بالتالي بحماسة قدوم الصيف الذي يكتفون بارتداء ثوب واحد فيه، ويتلذذون بازدهار العمل وسط أجوائه اللطيفة رغم الحرارة. ويعتبرون ذلك نعمة كبيرة لهم، لذا يرددون أن "الصيف أبو الفقراء أو أبو الفقير".

قضايا وناس
التحديثات الحية

الأكيد أن سكان قرى العراق لا يعيشون اليوم الحياة التي عرفها آباؤهم وأجدادهم، فهم يعتمدون في الزراعة على تكنولوجيا حديثة توفر لهم عملاً مربحاً في فصل الشتاء، ومحاصيل دائمة داخل بيوت مغطاة، فيما تزدهر أنواع أخرى من الأعمال باتت مرتبطة بالقرى، مثل تربية الأسماك والنحل وأنواع أخرى من الحيوانات والطيور، واستغلال التكنولوجيا في إنشاء مفاقس ودواجن حديثة، بحسب ما يذكر عيسى التميمي، الذي يدير مشاريع عدة لأفراد من عائلته داخل مزارع تبلغ مساحتها 120 دونماً ورثوها عن جدهم.

يقول التميمي لـ"العربي الجديد": "اختلفت الحال اليوم، وبات فصل الشتاء المفضل لدى سكان القرى، في حين لم يعد الصيف أبو الفقير، مثل السابق. والحقيقة أن السكن في بيت داخل قرية بات لا يختلف عن العيش في منزل بالمدينة، فمنازل القرى حديثة الطراز، وتتطلب توفير كهرباء على مدار اليوم، ما يحتم استخدام مولدات ذات كلفة كبيرة. أما عمل سكان القرى فلم يعد ينحصر في الزراعة بالكامل، بل يشمل وظائف حكومية وأعمالاً حرة بعيدة عن الزراعة وتربية الحيوانات، لذا باتت عبارة الصيف أبو الفقير وصفاً أكل الدهر عليه وشرب". 
وفي القرى، قد توفر المزارع المحيطة بالمنازل جواً أكثر لطفاً في الصيف وتخفف من حرارة الأرض، إذا قورنت بالمدينة حيث تحيط بالمنازل مبان من الباطون، وتمتد الأراضي المعبدة بالإسفلت في كل مكان، ما يرفع الحرارة إلى أكثر من 50 درجة مئوية أحياناً، ويجعل السكان يتمنون عدم قدوم الصيف، وبقاء طقس الشتاء طوال العام.

الصورة
دش عام بسيط لا يكفي (مرتضى السوداني/ الأناضول)
"دش" عام بسيط لا يكفي (مرتضى السوداني/ الأناضول)

لكن اللافت أن هذه الأمنيات لم تعرفها أيضاً الأجيال السابقة من سكان المدن الذين كانوا يتلهفون لقدوم الصيف الذي يتيح لهم حياة أكثر سهولة تعزز ثقتهم بعبارة "الصيف أبو الفقير"، وبينهم بشير الحسني (77 عاماً) الذي يروي أنه عاش حياة سهلة حتى وصوله إلى العقد الخامس من العمر، حين لم تعد الطاقة الكهربائية في البلاد تغطي احتياجات السكان.
الحسني، وهو مهندس معماري، يقول لـ"العربي الجديد" إن منازل المدن كانت تشيّد بأسلوب عبقري يراعي درجات الحرارة، وتحتوي تصاميمها خصوصاً تلك في مطلع القرن العشرين على قبو يسميه العراقيون سردابا بارتفاع يصل إلى ثلاثة أمتار وهو ذو شبابيك علوية بمستوى الشارع. وهو يكون رطباً في الصيف فيستغله الناس للنوم في وقت القيلولة خلال فترات النهار الصيفية، ما يسمح بهربهم من الحرارة المرتفعة، حين كانت الكهرباء حديثة العهد في العراق. أما في ليالي الصيف فكان السكان ينامون فوق أسطح منازلهم بعد رشها بالماء. أما في الشتاء فكان البرد القارس يجعل السكان في شبه سبات حيث يهرعون إلى منازلهم في وقت أبكر، في وقت كانت وسائل التدفئة تنحصر في ارتداء المزيد من الملابس، والتجمع حول موقد يعمل بالنفط". 
ورغم أن مقولة "الصيف أبو الفقير" لم تعد تمثل إلا تاريخاً ولّى بعد ما عاشه العراقيون لعقود طويلة، يتمنى الحسني لو بقيت الحال كما عهدها في السابق، "ونردد عبارة الصيف أبو الفقير. فالحقيقة أن الحياة كانت أفضل كثيراً من اليوم الذي يشهد معاناة من الخدمات السيئة، وأبرزها ضعف تزويد المواطنين بالكهرباء".

قضايا وناس
التحديثات الحية

ويبقى أن عراقيين كثراً اليوم يرددون مقولة "الصيف أبو الفقير" لكن من باب التندر لا أكثر، بحسب ما تقول نور علي، وهي موظفة في القطاع الحكومي، لـ"العربي الجديد". تضيف: "كلما عدت من الوظيفة، وأجد منزلي بلا كهرباء في ظل درجة حرارة تتراوح بين 40 و50 درجة مئوية تجعله أشبه بفرن من شدة الحرارة، أقول الصيف أبو الفقير".

المساهمون