شكراً إسرائيل؟

06 مايو 2025
ميركافا إسرائيلية تعبر إلى المنطقة العازلة بين الأراضي المحتلة وسورية (2/3/2025 فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الأزمنة الكبرى تجلب تحديات مثل الألم والقلق وفقدان الأحبة، مما يخلق تناقضات عقلية للسوريين بين اليأس والأمل والغضب والتعاطف.
- في ظل هذه التحولات، يحاول الأفراد استعادة رشدهم وسط أصوات متناقضة تتحدى البديهيات، مما يزيد من الاضطراب الأخلاقي، مثل سماع سوري يشكر إسرائيل.
- يعكس اضطراب البوصلة الأخلاقية ضياعًا طويلًا وتخوين جماعات بشرية، مما يؤدي إلى فقدان الاتجاهات والقيم وصعوبة التماس الأعذار للأقوال المتطرفة.

للعيش في الأزمنة الكبرى مئات وآلاف العيوب، فيه الألم، والقلق، واضطراب الرؤية، ضياع البوصلة، التشتت، فقدان الأحبة، والعمل ومصدر الدخل وأشياء البيت والبيت، وربما بعض الأطراف. في الأزمنة الكبرى، تتخلخل العلاقة بالأماكن والأشخاص، ستكره من كنتَ تظنّه خِلاً، وتنفر ممن كان صفيّاً، وتستغبي من كان حكيماً، ستهجر المكان الذي هيّأت فيه قبراً دون أن تلتفت للوراء.  
أعيش، مثل كل السوريين أينما كانوا، زمناً كبيراً. وتجري عليّ عيوبه وآلامه، ولعل أكثرها إيلاماً اضطراب المشاعر والمواقف، والتقلّب بين اليأس والأمل، الغضب من الناس، ثم التعاطف معهم، كره الكراهية والكارهين، وهو الشعور الذي يحمل في داخله أكبر تناقضٍ عقلي.  
ومع ذلك، أعود إلى رشدي بين الفينة والفينة، وأقول لنفسي: لا تيأس، أيها العجوز، هذه طبيعة الزمن، هذا ديدن أيام التحوّلات، أنت في قلب الزلزال الآن، وقريباً سيتغيّر ذلك، وتخفت أصوات الطنين.
من أكثر أصوات الطنين نقراً على منتصف الرأس تلك الأصوات التي تتناقض كلياً مع بديهياتٍ نسلّم بها، أو تربّينا على اعتبارها بديهيات، مثل أن تسمع سوريّاً راشداً يقول: شكراً إسرائيل.
تعلّمت حلال حياتي أن ألتمس عذراً لأي أحد، ولأي شيء مهما بدا فادحاً، أنجح كثيراً، وأفشل قليلاً، لكني هذه المرّة لم أعثر على عذر، لا في عيوب أزمنة التحولات الكبرى، ولا في تداعيات الزلازل الوطنية، ولا في ما التقطتُه من علم النفس، وعلوم أمراض العقل.
أعرف جيداً أنه حين تفوح رائحة الدم الساخن في الهواء، يقول الناس ما لا يعونه حقاً، وأن الناس يعودون إلى رشدهم بمجرّد أن يجفّ الدم الذي على الحجارة، ولكني كنت أعتقد أن إسرائيل لا تدخل على أيٍ من الجملتين الاسمية والفعلية، ولا في ما له معنى، ولا في ما ليس له معنى.
هذه آخر درجات اضطراب البوصلة، وهي لا تأتي، على فداحتها، إلا بعد أن تكون البوصلة قد عبرت فيافي من الضياع، فتاهت في تخوين جماعةٍ بشرية كاملة، سواءً طائفة، أو قومية، أو مدينة. وعبرت قليلاً في مفازة تكفير من يختلف عما نظنّه الصواب المطلق، أو من ينحرف مقدار شعرة عن شيء قاله رجلٌ ما قبل قرون. كائناً ما كان ذلك الرجل. تحتاج تلك البوصلة كي تخرب تماماً إلى اعتقاد أحدٍ ما أن رجلاً ما قال في زمن ما قولاً ما، وأن الحقيقة انتهت عند ذلك القول.
عملياً، ما كان بإمكان أحدٍ قول ذلك لإسرائيل، لولا أن البوصلة قد خربت تماماً، والأمثلة التي ذكرتها يمكن لها أن تحرفها قليلاً باتجاه الجنوب أو الغرب، لكن خرابها النهائي الذي يُفضي إلى هذه النتيجة يحتاج إلى تكرار ذلك مئات المرّات، وتنويعه وسحبه على كل شيء وكل أحد.
نجحتُ والتمستُ عذراً، حتى لصاحب ذاك القول، والعذر أننا خربنا جميعاً، نحن وخرائطنا ومفاهيمنا، وأن الخراب طَرَق بوصلتنا كالموج عقوداً، طرقها حتى ضيّعت الجهات، وصارت تشير إلى جهات جديدة غير التي نعرفها.
هي من عيوب الأزمنة الكبرى إذاً، بل نهاية عيوبها، وآخر مطافٍ يمكن أن تصل إليه، المحزن ليس أن يقول واحدٌ منّا ذلك، المحزن أنه دليل حيٌّ على أننا وصلنا إلى نهاية المنحدر، وجميعاً عبرنا ضفّة الوادي السحيق.  
قديماً قالوا: لا يمكن أن تُصبح الخيانة وجهة نظر، إلا بعد مرور زمن كافٍ على اعتبار وجهة النظر خيانة. فالأمم لا تخسر أبناءها قبل أن يخسروها.

المساهمون