سيرة حرب من سيرة الإعلام المرئي: تلفزيونات خاصة ابنة الاقتتال ووريثته

12 ابريل 2025
سطح مقر تلفزيون LBCI في أدما، شمال بيروت عام 2001 (جوزف براك/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- خلال الحرب الأهلية اللبنانية، لعبت وسائل الإعلام المرئية دورًا في تعزيز الانقسامات الطائفية والسياسية، حيث نشأت قنوات مثل LBC كذراع إعلامية لمليشيا "القوات اللبنانية"، مما عزز روايات معينة.

- بعد الحرب، ظهرت قنوات جديدة مثل MTV و"المستقبل" و"الجديد"، كل منها يعكس توجهات سياسية وطائفية مختلفة، حيث عادت MTV كصوت يميني محافظ، بينما مثلت "المستقبل" مشروع رفيق الحريري، و"الجديد" قدمت خطابًا يساريًا نقديًا.

- بعد 2019، واجهت القنوات اللبنانية تحديات كبيرة بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية، مما أدى إلى تراجع نوعية الإنتاج وانخفاض الثقة بالجمهور، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الإعلام المرئي في لبنان.

لم يكتب اللبنانيون رواية رسمية واحدة للحرب الأهلية (1975-1990). وإن كان الحديث عن هذه الحرب معقَّداً وشائكاً لكثرة تفاصيله المحلية والدولية، فإن التأريخ لتلك المرحلة يبدو أسهل إذا ما تتبعنا سيرة مؤسسات الإعلام اللبنانية، التلفزيونات تحديداً، التي نشأ بعضها وازدهر خلال الحرب، مؤدياً دوراً أساسياً في ترسيخ رواية هذا الطرف أو ذاك، مشاركاً في تعزيز الانقسام خلال سنوات الحرب، ثمّ مساهماً في الترويج للسلم الأهلي وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف.
الربط المباشر بين نشوء التلفزيونات اللبنانية (الخاصة) والحرب الأهلية قد يبدو مفتعَلاً، لكن الصورة تصبح أكثر منطقية إذا ما رصدنا نشوء هذه القنوات وعبورها مرحلة السلم الأهلي حتى أيامنا هذه، مروراً بكل الحروب الأهلية الصغيرة التي عرفتها البلاد في المرحلة الممتدة بين 1990 و2025.
لعلّ التجربة الجديّة الوحيدة لإنشاء قناة تلفزيونية حقيقية خلال تلك الحرب كانت تجربة "المؤسسة اللبنانية للإرسال – LBC"، التي انطلقت عام 1985 ذراعاً إعلامية لمليشيا "القوات اللبنانية"، بقيادة أحد أبرز أمراء الحرب في تلك المرحلة، سمير جعجع. لذا، عند الحديث عن علاقة المشهد الإعلامي المرئي اللبناني بالحرب الأهلية، أو ما يتعارف اللبنانيون على تسميته بـ"الأحداث"، فإن المثال الأكثر مباشرة يبقى LBC (التي أصبحت لاحقاً LBCI). لعبت المحطة دوراً محورياً في فرض رواية "القوات اللبنانية" داخل الشارع المسيحي، متسلحة بوجوه إعلامية عرفت كيف تبني علاقة مباشرة وحميمة مع المشاهد، وقدّمت محتوى مرئياً حزبياً، لكنه أيضاً ترفيهي وتجاري، قادر على جذب جمهور آخر، حتى من الجهة المقابلة للصراع، وإن بتحفّظ.
جاء تأسيس LBC ليسدّ فراغاً حقيقياً في المشهد الإعلامي المرئي، الذي كان يحتكره "تلفزيون لبنان" الرسمي. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، شكّل التلفزيون في لبنان ظاهرة فريدة في العالم العربي، بعد دمج القناتين الخاصتين "شركة التلفزيون اللبنانية" و"تلفزيون لبنان والمشرق"، واستحواذ الدولة على الحصة الكبرى من أسهم الشركة. غير أن هذه التجربة الليبرالية لم تصمد طويلاً أمام هشاشة البنية السياسية الطائفية، ليتحوّل التلفزيون مع بداية الحرب إلى ساحة اشتباك إضافية.
مع اندلاع الحرب، تراجعت قدرة الدولة على إدارة مؤسساتها، وكان من أوائل الضحايا "تلفزيون لبنان"، الذي انقسم فعلياً بين تلة الخياط (الغربية، تحت سيطرة الأحزاب اليسارية والإسلامية) والحازمية (الشرقية، تحت سيطرة اليمين المسيحي)، ليعكس بذلك الانقسام الجغرافي والطائفي في البلاد. بات التلفزيون عاجزاً عن تقديم خطاب جامع، وتحول إلى مرآة للصراع.
في هذا المناخ، بدأت المليشيات والأحزاب بتأسيس قنواتها الخاصة، مثل "تلفزيون لبنان العربي" لحركة "المرابطون"، و"قناة المشرق" لزاهر الخطيب، وCBN وUTV. ورغم اختلاف تجاربها في الاستمرارية، فقد أدّت جميعها وظيفة واحدة: ترسيخ صورة القوى المسلحة سلطة بديلة عن الدولة. وكانت الوسيلة بسيطة: نشرات الأخبار تحوّلت إلى بيانات عسكرية، وبرامج المنوعات إلى مهرجانات حربية.
لكن الانطباع الأكثر وضوحاً لطغيان الحرب على الشاشات ظهر بعد نهايتها. خرجت LBC من الحرب أقوى المؤسسات الإعلامية اللبنانية، فتحوّلت إلى أول محطة خاصة ناجحة في لبنان والعالم العربي، خصوصاً بعد سجن سمير جعجع وتفرُّد بيار الضاهر بإدارتها. عرف الضاهر كيف يحافظ على الإرث المسيحي المعارض للوجود السوري، ولو بحذر في البداية، قبل أن تصبح LBC لاحقاً واجهة إعلامية صريحة لقوى 14 آذار بعد اغتيال رفيق الحريري. وساهمت القناة بمجموعة من برامجها، سواء الترفيهية أو السياسية، في تشكيل رأي عام لدى اللبنانيين بعد الحرب. نذكر طبعاً هنا برنامج "كلام الناس" (تقديم مارسيل غانم) الذي استمر لسنوات على المحطة، وكان دوره أساسياً في صياغة الرأي العام وتوجهاته، بخطاب جريء أحياناً (بحدود الجرأة التي سمحت بها السلطات آنذاك)، ومتملّق في أحيان كثيرة أخرى.
في المقابل، شكّلت قناة MTV، منذ انطلاقتها عام 1991 على يد رجل الأعمال المتني غبريال المرّ، نموذجاً مختلفاً من الإعلام المسيحي، أكثر تطرفاً في مقاربته للهوية والانتماء السياسي. رغم الطابع الشبابي والتقني العصري الذي ميّزها، حملت معها خطاباً يمينياً محافظاً، يدغدغ مشاعر الشارع المسيحي، خصوصاً في ما يتعلق بالتحريض على الفلسطينيين والسوريين في لبنان، أو في مواجهتها المفتوحة مع "الشيعية السياسية". لم تتردّد القناة في استعادة خطاب الحرب الأهلية، سواء في تغطياتها السياسية، أو في مقارباتها للأحداث المحلية.

في انتخابات عام 2000، لعبت MTV دوراً محورياً في دعم مرشحين معارضين للائحة الموالية لسورية، ما أدى إلى إغلاقها عام 2002 بقرار قضائي، في سابقة رسّخت أكثر فأكثر سطوة النظام الأمني السوري على المشهد الإعلامي بأكمله. عادت المحطة إلى البث عام 2009، بعد الانسحاب السوري، معيدة تشكيل نفسها قناة "سيادية الهوى"، معززة بمقاربات طائفية محافظة، ومدافعة بشراسة عن خصوم حزب الله
مقابل الصعود الإعلامي المسيحي بعد الطائف (في موازاة الهزيمة السياسية المسيحية، متمثلة بسجن سمير جعجع، ونفي ميشال عون إلى فرنسا)، كان الوجه السياسي الجديد للبنان يواكبه وجه إعلامي آخر: قناة المستقبل. مثّلت القناة حقبة ما بعد الطائف. أطلقها رجل الأعمال اللبناني القادم من السعودية، رفيق الحريري، عام 1993، لتكون الواجهة الإعلامية لمشروعه السياسي والاقتصادي، ولسردية سُنّية معتدلة تنسجم مع الدور الإقليمي للسعودية في لبنان. امتلكت القناة نبرة ناعمة، تجمع بين الترفيه والسياسة. اجتذبت برامجها جمهوراً شبابياً واسعاً، مع الحفاظ على طابع محافظ، وعرف الحريري كيف يجعل منها منصة للبنان الذي أراد الترويج له، فخلق بيئة عمل داخل القناة لا تشبه أي مؤسسة أخرى، مستعيناً بموظفين وإعلاميين من مختلف الطوائف. وكما كانت القناة جزءاً من نجاح مشروع الحريري، ارتبطت أيضاً بتراجعه. ومع الانهيار السياسي والمالي، توقّفت القناة عن البث نهائياً عام 2019.
وماذا بعد؟ قناة الجديد، طبعاً، التي أسسها تحسين خياط عام 1992 باسم NTV، ثم أُوقِف بثها نتيجة ضغوط سورية، قبل أن تعود عام 2007. شكّلت المحطة تجربة صاخبة تلامس الشعبوية. انطلقت بخطاب يساري نقدي (إذ اشترى خياط القناة من الحزب الشيوعي اللبناني الذي خرج بدوره من الحرب منهكاً)، حاملة إرث اليسار اللبناني وخطابه العروبي الذي ساد طيلة سنوات الحرب. جمعت القناة إعلاميين يساريين وآخرين جدداً، وفتحت تدريجياً أبوابها لجيل شاب من الصحافيين، كوّن وعيه خارج الحرب الأهلية وخارج اصطفافاتها.
يمكن كتابة آلاف الكلمات عن المشهد الإعلامي المرئي اللبناني بعد الحرب، وعن الرُّخَص التي وُزعت وفق محاصصة ما بعد الحرب (قناة حركة أمل NBN، قناة حزب الله المنار...)، لتكون إرث الحرب الثقيل والباقي، وإن تغيّر الخطاب، وتغيّرت الوجوه، وتغيّرت الحروب حتى. فمع تفاقم الأزمة الاقتصادية في عام 2019، وانفجار مرفأ بيروت في عام 2020، دخلت معظم القنوات اللبنانية في نفق مظلم. خفّضت النفقات، وسرّحت الموظفين، وتراجعت نوعية الإنتاج. وبدا التحدي الأكبر: كيف تستمر هذه القنوات وسط انهيار السوق الإعلاني وتآكل الثقة بالجمهور؟ فالصيغة التي قامت عليها باعتبارها وريثة لاتفاق الطائف وتسوياته الطائفية والسياسية، لم تعد وحدها كافية.

المساهمون