استمع إلى الملخص
- قصص السكان مثل خالد الحسين وسامية البركات تعبر عن الألم والحنين للماضي، حيث يزورون منازلهم المدمرة ويتذكرون الحياة السابقة، مع الأمل في العودة وإعادة البناء رغم التحديات.
- توثيق الدمار ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي يعكس صمود السكان، ويهدف لإيصال رسائل للعالم حول الكارثة، مع الأمل في المساعدة بإعادة الإعمار.
برز في ريف إدلب في شمال غرب سورية، مؤخراً، ما أطلق عليه "سياحة الأنقاض"، حيث يذهب الناس في جولات لتفقد ما حل بقراهم وبلداتهم من دمار
خلقت مشاهد الدمار والركام التي خلّفتها سنوات الحرب في سورية ما أطلق عليه "سياحة الأنقاض" في ريف إدلب، لتصبح القرى والبلدات المهدمة وجهة لرحلات يومية للسكان المحليين والزوار من كل أنحاء سورية. ينطلق الزوار صباحاً في مجموعات صغيرة مستخدمين وسائل النقل الخاص والعام، ويتجولون بين أنقاض المباني المدمرة والمساجد التي تحولت إلى أطلال. يلتقط البعض الصور التذكارية أمام المنازل المهجورة، فيما يتحدث آخرون عن الذكريات المرتبطة بهذه الأماكن.
يقول محمد الأحمد، أحد سكان إدلب الذين ينظمون هذه الرحلات: "بدأنا في تنظيم هذه الجولات لتسليط الضوء على حجم المعاناة التي عاشتها هذه المناطق. لا يعرف الكثير من الناس ما حل بقراهم، وهذه الجولات تساعدهم على تذكر ماضيهم وإيصال صوتهم إلى العالم".
خلال إحدى الجولات في قرية كفرنبل التابعة لمعرة النعمان، وقف الستيني خالد الحسين أمام منزله الذي أصبح عبارة عن كومة من الحجارة بعينين مليئتين بالدموع. يقول: "هنا ولدت، وهنا كبرت، لكن الآن لا شيء يذكرني بالماضي سوى هذا الركام. لم أكن أتخيل أن يأتي يوم أزور فيه منزلي وكأنه موقع أثري. كل زاوية تحمل ذكرى، وكل حجر يحكي قصة". يتابع حديثه مشيراً إلى مدرسة القرية المدمرة: "كانت هذه المدرسة حياة أبناء القرية. أذكر الأطفال يركضون في ساحتها، ويضحكون، ويتعلمون. الآن تحولت إلى خرابة. عندما أتيت للمرة الأولى إلى هنا، شعرت وكأن روحي دُمرت. لكنني أعود بين الحين والآخر لأتذكر أيامنا الجميلة وأخبر العالم أن هذا الخراب كان يوماً مكاناً نسكنه ويعج بالحياة".
بعد زيارته أرضه التي كان يزرعها وكانت مصدر رزقه الوحيد، فؤجى بكم الشوك الذي نبت فيها بعد اقتلاع أشجارها وانتشار مخلفات الحرب فيها، لتتحول إلى أرض جرداء. ويتمنى أن يطول عمره ليتمكن من زراعتها من جديد.
أما سامية البركات التي تعيش في خيمة في شمال إدلب، وهي أم لثلاثة أطفال، فتروي قصتها أمام سوق قريتها معرة حرمة الذي دُمّر بالكامل. تقول: "في أحد الأيام، كنا نعيش في هذه البقعة من الأرض. كانت الأسواق تعج بالناس والبضائع فيما يلعب الأطفال هنا وهناك. لم نتمكن من العودة بعدما تحولت قرانا إلى أطلال تسكنها الأفاعي والقوارض".
تزور البركات قريتها باستمرار، وتتساءل إن كانت ستستطيع رؤية أطفالها يركضون في شوارعها مرة أخرى؟ تضيف: "إعادة إعمار القرى والبلدات المهدمة يشكل تحدياً كبيراً أمام السكان الذين ضاقت بهم السبل. فالموارد شحيحة، والوضع المادي متدهور وسط النزوح وقلة مصادر الدخل، ما يجعل العودة إلى هذه المناطق حلماً بعيد المنال".
ويرى البعض في هذه الزيارات جانباً إيجابياً. يقول محمود الإبراهيم إن "رؤية الدمار مؤلم، لكنه يذكرهم بصمودهم". يضيف أن الناس ليسوا هنا لاسترجاع الذكريات، بل لأنهم لا ينسون ما حدث، ولن يتخلوا عن حقهم في العودة وإعادة إعمار هذه الأرض.
ويؤكد أنها "ليست النهاية، فقد عاشوا أزمات كثيرة ونجوا منها. تمكن إعادة بناء ما دمر، لكن الأهم هو الحفاظ على روح تلك القرى. يجب أن يفهم الجميع أن الأمل بالله ونصره هو أعظم قوة نمتلكها، وهو ما أبقانا صامدين، وأن التغيير ممكن إذا تعاون الجميع لإعادة بناء هذه المجتمعات".
في المقابل، يجد الشاب خالد الرحال، الذي فقد والديه في القصف على بلدته حاس في ريف إدلب الجنوبي، في هذه الرحلات إعادة فتح جراح لم تلتئم. ويقول: "كل مرة أعود فيها إلى هنا، أشعر وكأنني أفقدهم من جديد. الزيارة ليست سهلة، لكنها تجعلني أُدرك حجم الخسارة وأتمنى أن يأتي يوم نستطيع فيه إعادة بناء ما دُمّر في حياتنا".
ويوثق الرحال بكاميرا هاتفه حجم الدمار الذي لحق بالقرية، لافتاً إلى أن تلك الجولات تحولت إلى ما يشبه "رسائل صامتة" إلى العالم، تعكس حجم الكارثة التي مرت بها هذه المناطق، محاولاً أن يظهر للعالم الوجه الحقيقي للحرب. ويوضح أن "هذه القرى ليست مجرد أماكن دُمرت، بل كانت عبارة عن حياة وذكريات وأحلام لأناس عاشوا فيها، قبل أن يهجروا وينكل بهم. لكنهم رفضوا الاستسلام رغم كل ما مروا به من مآسٍ".
ومن خلال توثيق هذه المشاهد ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، يأمل النجار أن تصل رسالته إلى من يمكنهم المساعدة، سواء لإعادة الإعمار أو لإيقاف هذا النوع من المآسي مستقبلاً. ويقول: "تنتهي هذه الرحلات مع مغيب الشمس. نغادر وفي قلوبنا ذكريات أليمة وأحلام دفنت تحت الأنقاض. آمل أن يعاد بناء هذه المناطق يوماً ما لتنبض من جديد. يمكن أن يزال الحجر، لكن أحداً لن يستطيع محو الذاكرة أو كسر الروح. نحن هنا لنقول إننا لم ننتهِ. هذه الأرض لنا، وسنعود إليها مهما طال الزمن".