سورية بلا عقوبات غربية: التحدّيات المحلية التي تنتظر

03 يونيو 2025
صبية سوريون بعد عودة أسرهم إلى منزلهم في ريف إدلب الجنوبي (27/5/2025 الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- تقف سوريا أمام فرصة لبناء دولة جديدة بعد سقوط النظام السابق ورفع العقوبات الأمريكية، مما يتطلب مصالحة وطنية حقيقية مبنية على الاعتراف المتبادل بين المواطنين كمواطنين متساوين.
- بناء الدولة الجديدة هو مشروع طويل الأمد يتطلب مواجهة الأسئلة الصعبة والاعتراف بالتنوع كقيمة إيجابية، مع التركيز على الحوار المجتمعي والنقد العمومي لتجنب الشمولية.
- لتحقيق العدالة والمصالحة، يحتاج السوريون إلى منابر حوار تتيح إعادة بناء المجتمع وضمان العدالة في توزيع الموارد والتمثيل السياسي، مع التركيز على مستقبل يضمن عدم تكرار أخطاء الماضي.

في لحظةٍ تبدو وكأنها نهاية فصلٍ طويل من الألم، أو بداية لحقبةٍ جديدة من الإمكانات، تقف سورية أمام مفترق طرق. لقد سقط النظام الذي طالما اختزل الوطن في نفسه، واحتكر الحقيقة، وجرّ البلاد إلى دهاليز الاستبداد والصمت. واليوم، مع رفع العقوبات الأميركية، وبينما يعلو خطاب النصر وتُرسم ملامح الدولة الجديدة، يُطرح السؤال الأصعب: كيف نمنع إعادة إنتاج المنطق نفسه الذي حوّل الدولة إلى قدرٍ متعالٍ، والمواطن إلى متلقٍ مطيع؟ كيف نؤسس لمصالحةٍ لا تُبنى على رواية واحدة، بل على اعترافٍ متبادل بين السوريين بوصفهم مواطنين متساوين، وعلى الإنصات لا على الإملاء؟
لطالما وظّفت مؤسسات السلطة في سورية سردية وطنية شمولية تُقدّم الدولة كائناً ماورائيا، يتجاوز الناس، يتكلم باسمهم، ويعرف عنهم أكثر مما يعرفون. هذه السردية نفسها، وإن تغيّرت وجوهها، تُهدّد اليوم بالعودة بثوبٍ جديد: سردية تُقدّم إسقاط النظام على أنه تحقيق لوعدٍ تاريخي أو مشيئةٍ قدَرية، لا محصلة نضالية بشرية متعددة الوجوه. هذا الخطر لا يكمن فقط في الخطاب، بل في التوجّه نحو بناء دولةٍ جديدة دون مساءلةٍ علنية، ودون نقاشٍ مفتوح، ومن دون مشاركةٍ حقيقية في بلورة معنى هذا التحول الجديد ومآلاته.

لا يمكن أن تُبنى شرعية النظام السياسي القادم فقط على حوار تأسس لحظة سقوط نظام مهما كان ذاك النظام جائر

يجب ألّا يبقى بناء الدولة بعد الخلاص من نظام فاسد حبيس لحظة نصر تاريخي، بل هو مشروعٌ طويل لإعادة بناء العلاقة بين الناس بعضهم بعضاً، وبينهم وبين مؤسسات الحكم. هو مسار وليس مجرد إجراءات زمنية، مسار يتطلب مواجهة صادقة مع الألم، كل الألم، مع الانتهاكات كلها، مع الصمت الذي كمم الأفواه، ومع الأسئلة الصعبة التي لا تملك أجوبة جاهزة. بناء الدولة لا تكفيه مراجعة الماضي والمحاسبة على أخطائه، بل أيضاً الاعتراف، التوثيق، الاستماع، والاعتذار لإعادة صياغة سرديات وطنية جامعة تقودنا نحو مستقبل مشترك ولا تغلق النص على سرديات الماضي.
ورفع العقوبات الغربية ليس نصراً بحد ذاته، بل هو بوابة تفتح على المستقبل، لكن مسارات هذا المستقبل ومآلاته تتعلقان بما سيفعله السوريون بأنفسهم، وأي إرادة ستحركهم باتجاه المستقبل، وبالطبع فالدولة هي من سيرسم شكل العلاقة مع المجتمع، وإسهام هذا المجتمع بجميع مكوناته في النقاش الوطني، وفي عملية البناء، والتقاط فرصة رفع العقوبات، لإعادة بناء الاقتصاد، والمجتمع قبل الاقتصاد. وما هي الأرضية التي ستمشي عليها هذه العملية التشاركية الضرورية، بل الحتمية. ودون هذه التشاركية سيكون قرار رفع العقوبات دون تأثير، فلا معنى لرفع العقوبات الغربية، إذا تمسّك المجتمع السوري بسجل عقوبات ضد بعضه البعض. 
لقد بيّنت التجربة السورية، خاصة في سنوات النزاع والانقسام، أن الهوية الوطنية لا تُفرض من فوق، بل تُبنى من تعددية الواقع المحلي. لا يوجد وطن دون اختلاف، ولا مصالحة دون اعتراف بالتنوع، لا بوصفه عقبة يجب تجاوزها، بل قيمة إيجابية يجب احتضانها. يفرض هذا على أي مشروع للمصالحة والوفاق الوطني أن يكون متعدّد المسارات، يدمج بين الآليات المركزية والمبادرات المحلية، ويمنح الأولوية لصوت من عاش التجربة من زواياها المختلفة لا فقط لمن يرويها عن بعد.
لكن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في تنوع الروايات، بل في استعداد الحكومة اليوم للانتقال من دورها السابق مالكا للحقيقة المطلقة، إلى راعٍ لمساحة الحوار حولها. على الدولة أن تكون بنية قابلة للنقد، منصة لاختلاف الآراء، لا أداة لإعادة إنتاج الشمولية باسم الشرعية أو التاريخ أو الاستقرار. لا بد من الواقعية والتواضع السياسي في وجه تعقيدات الواقع، ولا بد من رفض تحويل الدولة إلى بطلٍ روائي مغلق، بل جعلها ساحة مفتوحة للسرد والتفاوض المجتمعي والمساءلة. 
سيكون على المجتمع العمل مع الحكومة لإنجاح التجربة، ولكن عليه أن يكون أيضاً بالمرصاد، كي لا تعود أدوات التسلط  لتغلق الحوار الوطني المطلوب، وهو الحوار الذي يجب أن يستمر لتطوير كل ما يتعلق ببناء الدولة من مسارات الإعمار والمصالحة والعدالة الانتقالية والإصلاح المؤسسي. بعضنا سيختار العمل على بناء الدولة من داخل هياكل الحكومة الجديدة وهذا جيد وضروري، وبعضنا سيعمل من خارجها ناصحًا وناقدًا لنضمن حرية تداول الأفكار وعدم احتكارها أو اختزالها ضمن مؤسسات الحكم الجديدة، وهو دور آليت على نفسي أن ألعبه فيما تبقى لي من أيام. 
وفي هذا السياق، يكتسب الحوار الوطني المستمر والمفتوح أهمية قصوى لضمان استمرار الفعل التواصلي بين قوى المجتمع والاعتراف بوجود الآخرين وشرعية سردياتهم، إذ لا يمكن أن تُبنى شرعية النظام السياسي القادم فقط على حوار تأسس لحظة سقوط نظام مهما كان ذاك النظام جائراً، بل على تفعيل مستمر لمساحات الخطاب العام، فالدولة لا تكتسب أخلاقيتها من إعلان نفسها ممثلة للإرادة العامة، بل من التزامها بأن تكون فضاءً مفتوحاً للتفاعل بين المواطنين، تعترف بتعدّدهم، وتُصغي لاختلافاتهم، وتُصوّب مسارها عبر النقد العمومي والنقد الذاتي لسردية السلطة ومشروعيتها.

علينا أن نعي أن الظلم في الماضي لم يقتصر على جرائم أفراد في نظام بائد، وأن تحقيق العدالة لا يعني مجرّد محاسبة هؤلاء على أفعالهم

ما يحتاجه السوريون اليوم ليس فقط مؤسّسات عدالة فعالة، بل منابر حوار، ومساحات تواصل، وأدوات تتيح للمجتمع السوري أن يعيد بناء ذاته من القاعدة إلى الأعلى. الإعلام المحلي، والمبادرات المدنية، والمجالس المجتمعية، والشبكات الثقافية، كلها عناصر أساسية في صناعة المصالحة. فالعدالة والمصالحة ليست قانوناً ولا وثيقة ولا هيئة عليا، بل ثقافة تتجذر بالتدريج من خلال الاعتراف المتبادل، ومن خلال توسيع دائرة من له الحق في الكلام ومن يجرؤ على الكلام.
لا تروي الدولة العادلة الحكاية الأخيرة. إنها تفسح المجال لحكاياتٍ لم تُروَ بعد، وتقبل أن تكون مساحتها ساحة للاعتراف، لا منصة للإنكار. وإذا كان سقوط النظام البائد قد فتح الباب أمام التغيير، فإن مسؤولية الحاضر هي ألا يُغلق هذا الباب مجدّداً باسم أي سردية، مهما بدت مقنعة أو مخلِّصة. فشرعية الدولة القادمة لن تُبنى على إغلاق النقاش، بل على احتضانه. وبناء الدولة لا يتم بالختم لإعلان نهاية مرحلة، بل يتطلب نقاشًا شاملًا ومنفتحًا على الجميع، لا تكتبه مؤسّسات الدولة وحدها، بل يصوغه المجتمع بأكمله، بمبادراته، وحواراته، وأصواته المختلفة عبر حوار وطني مستمرّ في جميع المجالات. ولا يتعلّق هذا الحوار فقط بإغلاق صفحة الماضي، بل بكل الإشكالات القديمة والمستحدثة. 
علينا أن نعي أن الظلم في الماضي لم يقتصر على جرائم أفراد في نظام بائد، وأن تحقيق العدالة لا يعني مجرّد محاسبة هؤلاء على أفعالهم، بل يعني تصوّراً جديداً لمنظومة الحكم يضمن عدم تكرار الماضي. مركزة السلطة واحتكار الموارد ومقدّرات الاقتصاد وتقييد التعبير والتمثيل السياسي وفّرت الغطاء والمبرّر للظلم في الماضي. والعدالة لا تتحقق بدون تفكير مستقبلي يضمن العدالة في توزيع الموارد الوطنية على طول الجغرافيا السورية، والعدالة البيئية، والعدالة بين الريف والمدينة، والعدالة في التمثيل السياسي والحقّ في الوجود في الحيز العام لكل أفراد المجتمع، رجالاً ونساءً شيباً وشباباً. فالعدالة ليست مساراً يكتفي بالنظر إلى الخلف، بل هي مشروع يستشرف المستقبل بوعي أكبر. لا ينفع أن نحاسب الماضي إذا كنا سنظلم أولادنا والأجيال القادمة.
في المقابل، لا يمكن أن يتوقع السوريون أن يؤدوا ذلك كله في غضون أيام قليلة. ولن توفر المعطيات الخارجية، كرفع العقوبات، سوى حافز لهم للعمل معاً لإعادة الإعمار وتحقيق الوفاق الوطني. وسيكون عليهم أن ينظروا إلى الأمام لا إلى الخلف. لندع مسارات العدالة الانتقالية تأخذ مجراها فيما يخص الماضي، ولكن المستقبل ينتظر السوريين في ساحات أكبر وأوسع وأكثر خطورة من الشرذمة التي خلفتها لنا عقود من الاستبداد وسنوات من الحرب. لم تنته التضحيات لحظة سقوط النظام. سيكون علينا أن نضحّي كل منا من موقعه ومن دوره. وسيكون على كلٍّ منا أن يقبل أن سورية الجديدة لن تتطابق مع سرديته بالمطلق، ولكنها ستوفر للجميع مساحة للتعبير عن سردياتهم وهذه ربما تكون التضحية الأكبر المطلوبة اليوم.

المساهمون