سودانيون بلا وثائق... معضلة تضاعف معاناة النزوح واللجوء
استمع إلى الملخص
- في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، يواجه السكان صعوبات إضافية في الحصول على الوثائق بسبب القيود المفروضة، مما أدى إلى تعطيل حياة الكثيرين وفقدانهم فرص العمل والتعليم.
- رغم جهود وزارة الداخلية، تعيق الرسوم الباهظة والقيود المشددة حصول اللاجئين على الوثائق، مما دفع البعض للهجرة السرية وفقدان حقوقهم الأساسية.
فقد عشرات آلاف السودانيين أوراقهم الثبوتية ووثائقهم وشهاداتهم الأكاديمية خلال فرارهم من فظائع الحرب التي اندلعت في وقت متزامن بعدد من الولايات، من بينها العاصمة الخرطوم.
خسر آلاف السودانيين أوراقهم الثبوتية وهوياتهم خلال الحرب المستمرة منذ ثلاثين شهراً، ولايزال بعضهم ينتظرون داخل وخارج السودان الحصول على وثائق بديلة، بينما حُرم البعض من استخراج الأوراق الثبوتية على أسس مناطقية وقبلية، وفقاً لما يعرف بالانتماء إلى حواضن قوات الدعم السريع
التي تخوض الحرب ضد الجيش السوداني.وخلفت خسارة الوثائق الثبوتية معاناة قاسية لآلاف الأشخاص الذين تفرقوا بين شتات النزوح الداخلي واللجوء في دول الجوار، ما تسبب في تعطيل حياتهم، وحرمانهم من العديد من الخدمات والحقوق، مثل السفر والعلاج والتعليم وفرص العمل. وحاول بعضهم على مدار أكثر من عامَين استخراج وثائق بديلة، لكن من دون جدوى.
وتتنوع صعوبات الحصول على الأوراق الثبوتية بين خروج المؤسّسات المسؤولة عن استخراج الأوراق الثبوتية عن الخدمة من جرّاء تدمير البنية التحتية الحكومية، أو فقدان مراكز السجل المدني ومكاتب الجوازات وغيرها معداتها وأرشيفاتها نتيجة النهب والتخريب الذي طاول المؤسسات الحكومية منذ بداية الحرب، إلى جانب عدم وجود بعثات دبلوماسية لاستخراج الأوراق الثبوتية خارج السودان، وكذا ارتفاع كلفة استخراج الأوراق الثبوتية في الداخل.
في ولاية غرب كردفان التي تخضع لسيطرة قوات الدعم السريع، فقد محمد عبد الله أوراقه الثبوتية في مايو/أيار الماضي، ما حرمه من الاستفادة من حسابه البنكي، وعطل الكثير من الإجراءات التي تستخدم فيها تلك الوثائق، ويقول لـ"العربي الجديد": "عندما هاجم الدعم السريع قريتي، نزحت بأسرتي إلى منطقة مجاورة، لكنّني فقدت أوراقي خلال النزوح، ولم أستطيع استعادتها، أو أتمكن من استخراج بديل لها لعدم وجود مركز للأوراق الثبوتية في مناطق سيطرة الدعم السريع. المشاكل التي واجهتها خلال الفترة الماضية كبيرة، إذ ظللت عاجزاً عن إجراء أي معاملة حكومية، وعدم وجود مركز لاستخراج الأوراق الثبوتية جعل الآلاف مثلي غير قادرين على الوصول إلى الخدمات الأساسية".
فقدان الوثائق الثبوتية يحرم آلاف السودانيين من الخدمات والحقوق، ومنعت السلطات حصول سكان مناطق سيطرة الدعم السريع على الأوراق الثبوتية
بدورها، تبحث سوسن الطيب النازحة من حي الكلاكلة في أم درمان، عن وسيلة تمكّنها من استخراج شهادتها الجامعية التي تركتها مع مستنداتها الثبوتية والأكاديمية قبل نزوحها إلى مدينة الضعين في شرق دارفور في يوليو/تموز 2023. وتقول لـ"العربي الجديد": "غادرنا المنزل على عجل بسبب المعارك التي كانت تدور داخل الحي، ولذلك تركت كل المستندات والأوراق الثبوتية وشهاداتي الأكاديمية، وتعرض المنزل لاحقاً لعمليات نهب من المسلحين، ما أدى إلى فقدان المستندات".
كانت سوسن تستعد قبل الحرب للسفر إلى إحدى الدولة العربية من أجل العمل، لكن فقدان أورقها الثبوتية والجامعية تسبّب في فقدانها فرصة العمل، وتوضح: "حصلت على فرصة عمل في الكويت، وقبل استكمال إجراءات السفر اندلعت الحرب، ونزحنا إلى الضعين، والتي توقفت فيها خدمات السجل المدني والجوازات منذ بداية الحرب. مراكز استخراج الأوراق الثبوتية توقفت في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع، وبات من غير المسموح للسكان في تلك المناطق الحصول على وثائق بزعم أنهم حواضن للدعم السريع، أو يناصرونها في الحرب ضدّ الجيش".
وتتابع: "تسبب فقداني للأوراق الثبوتية، مثل جواز السفر والرقم الوطني والبطاقة القومية في عدم قدرتي على استخراج شهاداتي الجامعية، ولا أتوقع أن تُحل هذه المعضلة قريباً، ما وضع مستقبلي المهني في مهبّ الريح، في حين كنت على وشك بداية حياة عملية في مجالي الذي درسته".
بدورها، فقدت المعلمة بالمعاش مريم تاج الدين جواز سفرها وبطاقتها القومية في مدينة أم روابة التي سيطر عليها الدعم السريع في أغسطس/آب 2023، وقد تمكنت من دخول دولة جنوب السودان التي سمحت للسودانيين بدخول أرضيها من دون أوراق ثبوتية، ثم عبرت إلى مخيّم كريندقو في أوغندا.
وتقول مريم لـ"العربي الجديد": "حاولت استخراج الأوراق الثبوتية كي أتمكن من توثيق توكيل في السودان من أجل صرف معاشي، لكن ارتفاع كلفة استخراج جواز السفر إلى 250 دولاراً للاجئين في أوغندا، حرمني من ذلك، فالمبلغ يفوق قدراتي المالية. عشرات النساء في المخيّم لا يملكن أوراقاً ثبوتية لاستكمال أيّ إجراءات رسمية في السودان، ما عطل حياتهنّ، وعرضهنّ لكثير من المعاناة".
وفي الداخل السوداني، أدى الصراع إلى حرمان الآلاف من استخراج، أو تجديد أوراقهم الثبوتية منذ اندلاع الحرب. يقول مصطفى يعقوب، من ولاية شمال دارفور، لـ"العربي الجديد": "آلاف الأشخاص الذين فروا من مناطق الصراع فقدوا وثائقهم الثبوتية وشهاداتهم الجامعية وأوراق ممتلكاتهم، سواء بالنهب أو التلف أو الحرق، وبعضهم تركها خلفه حين نزوحه، ومع تعطل خدمات استخراج وتجديد الأوراق الثبوتية في مناطق كثيرة، بما فيها إقليم دارفور، يعاني هؤلاء الكثير من المشكلات".
ويتابع يعقوب: "لم يتمكّن ابني من الجلوس لامتحان الشهادة الثانوية بسبب فقدان رقمه الوطني وبطاقته القومية، وخلال عامين ونصف العام من الحرب، تعطلت حياة آلاف المواطنين الذين فقدوا أوراقهم الثبوتية أو انتهت مدتها القانونية، خاصة في المناطق التي تمنع السلطات سكانها من الحصول على الأوراق الثبوتية بحجة أنها مناطق الدعم السريع".
وإلى جانب معاناة قضاء الأمور الحياتية اليومية التي تحتاج إلى إبراز الوثائق الثبوتية، اضطر كثير من السودانيين إلى الهجرة السرية خياراً بديلاً بعد تعذر الحصول على وثائق بديلة، ما عرض حياة الكثير منهم للخطر، وألحق بهم أضراراً مختلفة.
يقول يوسف عبد القادر، وهو أب لستة أطفال، لـ"العربي الجديد": "أعيش في دولة جنوب السودان لاجئاً منذ بدء الحرب، ولم أتمكن من استخراج جوازات سفر لي أو لأطفالي وزوجتي، ما حرمنا من حرية التنقل، وحال دون استكمال الكثير من المعاملات القانونية. جواز سفري انتهت صلاحيته في نهاية عام 2023، أما أطفالي وزوجتي فقد فقدوا أوراقهم الثبوتية أثناء مغادرة مناطق الحرب في ولاية الجزيرة، وعلى مدار أكثر من عامين، لم أتمكّن من استخراج أوراق ثبوتية بديلة بسبب ارتفاع تكلفة استخراج الجواز في جنوب السودان".
ويضيف عبد القادر: "أحتاج إلى ثمانية جوازات سفر، ولا يمكنني من دفع كلفتها بالدولار، فالمبلغ كبير، ولا يملكه أي لاجئ. نعاني من الفقر، ولا أملك أي مصدر دخل، وفشلت في استكمال إجراءات تحويل ملكية أرضي في السودان لعدم امتلاكي أوراقاً ثبوتية، وعندما أحتاج إلى توكيل من ينوب عني، يحرمني عدم وجود الأوراق الثبوتية سارية المفعول من إنجاز المهمة".
خسرت الطالبة تبيان عبد الرؤوف فرصتها في الدراسة بالهند بسبب فقدان أوراقها الثبوتية أثناء النزوح من حي الطائف بالخرطوم، وتقول لـ"العربي الجديد": "عندما اندلعت الحرب حملنا بعض أغراضنا ونزحنا من الحي الذي يقع بالقرب من القيادة العام للجيش، وفي أحد الارتكازات العسكرية استولى الجنود على ممتلكاتنا، بما فيها الأوراق الثبوتية، وتوسلت لهم أسرتي لمنحي أوراقي الثبوتية، خاصة جواز السفر، لكنهم أجبرونا على المغادرة، ومنذ ذلك اليوم، فشلت في استخراج أيّ أوراق بديلة بسبب توقف مراكز استخراج الجوازات في ولاية جنوب كردفان التي نزحت إليها".
من جانبه، يقول الناطق باسم الشرطة السودانية، العميد فتح الرحمن التوم، لـ"العربي الجديد": "لدى وزارة الداخلية خطة لتسهيل حصول المواطنين على الأوراق الثبوتية، مثل شهادات الميلاد والوفاة، والرقم الوطني، والبطاقة الشخصية، وجواز السفر، وقد تمكنت الوزارة من إعادة تشغيل 45 مركز جوازات وسجل مدني داخل وخارج السودان من أجل تيسير الحصول على الوثائق الثبوتية".
ويضيف فتح الرحمن: "في الفترة التي أعقبت بدء عمل مراكز السجل المدني والجوازات، جرى استخراج ما يتجاوز مليونين وخمسمئة ألف جواز سفر، وإعادة طباعة آلاف الأرقام الوطنية، فضلاً عن استخراج شهادات الميلاد والوفاة، وفي الأيام القادمة ستستأنف خدمة استخراج البطاقة القومية بعد استكمال الإجراءات الفنية والإدارية، وتقوم الإدارة العامة للجوازات والهجرة بتسيير مأموريات لاستخراج الأوراق الثبوتية للسودانيين في الدول التي لا توجد بها مكاتب جوازات ضمن البعثات الدبلوماسية".
في المقابل، يؤكد الخبير القانوني عاطف كرم الله لـ"العربي الجديد"، أن "تسهيل الحصول على الأوراق الثبوتية من بين الحقوق الأساسية للمواطنين، كونها تمكنهم من ممارسة حياتهم بحرية داخل وخارج السودان، لكن وزارة الداخلية وضعت قيوداً مُشددة حرمت بموجبها آلاف السودانيين من الحصول على الأوراق الثبوتية، كما فرضت رسوماً باهظة، ما جعل الكثير من الأشخاص يفشلون في استخراجها نتيجة عدم تمكنهم من توفير تلك المبالغ. ليس من العدالة أن تفرض 250 دولاراً على اللاجئين السودانيين للحصول على جواز السفر، فالناس عموماُ، واللاجئون خصوصاً، يحتاجون إلى المساعدة، لا فرض الجبايات عليهم".