رقصة الدراويش... فلسفة بدأها جلال الدين الرومي وتعمّمت صوفياً

22 مارس 2025
بُعد روحي لرقصة الدراويش الدائرية، 30 مارس 2017 (الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- رقصة الدراويش هي نوع من التسبيح والذكر لله، وتعتبر في فلسفة جلال الدين الرومي نوعًا من الصلاة والتواصل الروحي، معبرة عن الاتحاد بين الخالق والمخلوق، ومؤثرة في طرق صوفية أخرى مثل النقشبندية والمولوية.

- تأسست الطريقة المولوية على يد جلال الدين الرومي، متأثرًا بشمس الدين التبريزي، مما أضاف بعدًا جديدًا للعبادة يمزج بين الفرائض والروحانيات والشعر والموسيقى، مؤثرًا على الأدب والزهد.

- ملابس الدراويش تحمل دلالات رمزية، تعكس حركة الكون وفلسفة الرومي الصوفية المتسامحة، التي انتشرت في الولايات العثمانية وبلدان أوروبية، ويحتفظ متحف الرومي في قونيا بتراثها.

رداً على سؤال: أين تقع رقصة الدراويش في ميزان "التحليل والتحريم"؟ يقول رجل الدين التركي محمد حاج خلف، إن رقصة الدراويش ليست رقصاً بالمعنى المتداول، بل تسبيح وذكر لله، وفي فلسفة جلال الدين الرومي الرقصة نوع من الصلاة، فهي تواصل بين المتعبد وخالقه.
ويؤكد حاج خلف، من حي باغجولار بمدينة إسطنبول التركية، لـ"العربي الجديد"، أنه "من الخطأ قياس رقصة الدراويش استناداً إلى حديث جعفر بن أبي طالب عن أنه رقص أمام النبي محمد، أو استناداً إلى الآية التي تقول: (ولا تمْش في الأَرض مرحا إنّ اللّه لا يحبّ كلّ مختال فخور)، لأن دوران الدراويش ليس اختيالاً ولا بطراً، كما لا صحة للنظر إلى الدوران بأنه بدعة للتقرّب إلى الله. إنه في المختصر طريقة تعبّد فلسفية وصلة مع الله، وحال اتحاد بين الخالق والمخلوق، هي بين عاشق ومعشوق، مع كلّ احترامي لآراء المفسرين".
يتابع: "بعد أن نقلب صفحة الخلاف حول رقصة الدراويش نقر بأنها باتت مدرسة لما بعدها، سواء النقشبندية في مصر والشام والمغرب العربي، أو المولوية التي اختصرت الصوفية وتعدت حدود الدول العربية وربما الإسلامية".

وفيما يُطرح السؤال متى بدأت رقصة الدراويش، وكيف ظهرت وانتشرت، ثمّة اتفاق على أن جلال الدين الرومي الذي جاء، برفقة أبيه بهاء الدين فتى صغيراً إلى مدينة قونيا التركية من مدينة بلخ الأفغانية، هو مؤسس الطريقة المولوية التي استقى ملامحها، على الأرجح من معلمه، برهان الدين الترمزي، ضمن ما تعلمه من علوم وفنون، قبل أن يذهب إلى حلب ودمشق، كي يكمل تعليمه الذي كان لإرث محيي الدين بن عربي نصيب وفير فيه، ثم يعود إلى قونيا ويدرس علوم الدين والفقه الإسلامي ويزداد عدد طلابه.
وحصل التحوّل الكبير في حياة جلال الدين الرومي والطريقة الصوفية حين التقى معلمه شمس الدين التبريزي عام 642 هجرية. ورغم أن هذا اللقاء دام ستة أشهر فقط، لكنه أوجد تآلفاً بين قلبين، ومزج بين هدفين، وتمخّض عنه طريقة جديدة في العبادة تمزج الفرائض بالروحانيات والشعر والموسيقى، وحتى الرقص والغناء، وفق تفسير الرومي والتبريزي، وذلك بطقوس جسدية تقرّب المتعبد من الخالق، وتجعله يذوب في بحر عشقه. والدوران على إيقاع آلات الدف والناي يحاكي حركة الكون والكواكب والأفلاك السماوية، وراقصو الدراويش متصوفون زاهدون في ملذات الحياة.
ويلاحظ من يبحث في تأثير التبريزي على حياة وفكر الرومي أن التغيير لم يقتصر على فلسفة الرقصة الدائرية وبُعدها الروحي، بل على الأدب والفلسفة والزهد. وفي كتب الرومي ما يعتبره نقاد آثاراً مباشرة للقائه معمله التبريزي، والذي نقل التلميذ إلى ما بعد المادية والجسد، وأغرقه في المضمون والتأملات الروحية والبحث في حقيقة الوجود والموجود.
واللافت أن نهاية حكاية الرومي مع التبريزي تضمنت أسراراً وربما فجيعة، إذ تشير مصادر عدة إلى أن التبريزي قرر بعدما التقى الرومي طوال ستة أشهر، الذهاب إلى دمشق، فمرض الرومي وانزوى ونالت منه نيران الفراق، فسافر ابنه الأكبر سلطان إلى دمشق، وتوسل التبريزي لأن يعود، وهو ما حصل، لكن ليس لفترة طويلة إذ اختفى في ظل ظروف غامضة. وتقول روايات إن التبريزي هاجر سراً إلى مدينة خوي الأذربيجانية حيث توفي، وروايات أخرى تقول إن محبي جلال الدين الرومي، من بينهم ابنه الأصغر علاء الدين محمد، قتلوا التبريزي ورموه في بئر.

الدوران في رقصة الدراويش طريقة تعبّد فلسفية وصلة بالله، 20 إبريل 2022 (خالد دسوقي/ فرانس برس)
الدوران في رقصة الدراويش طريقة تعبّد فلسفية وصلة بالله، 20 إبريل 2022 (خالد دسوقي/ فرانس برس)

وبصرف النظر عن روايات اختفاء المعلم التبريزي، ثمّة حقيقة متفق عليها تتمثل في موت روح ونفس الرومي منذ أن غاب معلمه، واستمر في نتاج فلسفي روحي على نحو أقرب للانعزال حتى توفي عام 672 للهجرة. أما صفحة ما يسميه الأتراك "سلطان العارفين" فلم تطوَ إذ تنظم ذكرى سنوية لوفاته في ولاية قونيا باسم "صبح العروس".
ويقول الأكاديمي التركي، بوراك باشاران، من ولاية قونيا لـ"العربي الجديد: "استكملت أفكار الطريقة المولوية الحالية الخاصة بالتقاليد والوعظ والإرشاد أو الرقص من تلاميذ الملا جلال الدين الرومي استناداً إلى المدرسة الفلسفية ذاتها. ويعني لباس الدراويش خلال رقصتهم الدائرية امتزاج وتماهي المخلوق مع الخالق".
ويقول متصوفون ودراويش إن لون التنورة الأبيض ذات الشكل المخروطي يرمز إلى الكفن والنهاية الحتمية، أما العباءة الفضفاضة السوداء فوقه فترمز إلى التقشف وترك مغريات الحياة. ويدل الطربوش البني الصوفي الخشن على خشونة الحياة، وعدم الركون إلى الملذات، أما الثوب القصير فيرمز إلى الحياة القصيرة الفانية، والحزام العريض على البطن يدل على ما يفعله الفقراء والنبي، عبر شد الحجارة على البطن خلال الجوع. وهناك ألبسة ودلالات كثيرة مثل الخف "الحذاء" الأسود الخفيف الذي يرمز إلى البساطة والفقر، والعمامة الخضراء (الدستار) التي يلفها البعض على عماماتهم، وهي مرتبة دينية، أو معرفية للشيوخ. أما لباس شيخ الطريقة الذي يقتدي به الدراويش خلال الرقص فيُسمى "الخرقاية"، وهو ثوب فضفاض بأكمام واسعة يشير إلى أن الفناء هو نهاية الحياة، رغم أنها طويلة ومغرية وفضفاضة، وذلك مهما طال الدوران.
ويفسر رجل الدين الصوفي حاج هاليل، الذي يسكن في حي درامان، الذي يُعرف بأنه أكثر حي صوفي في إسطنبول، معنى الدوران في الرقصة المولوية بالقول لـ"العربي الجديد": "إنها تحاكي حركة الكون، فالمسلمون يدورون حول الكعبة، والأرض تدور حول نفسها، والشمس تدور حول نفسها والأرض".
ويضيف: "تبدأ الرقصة المولوية بدورة السلطان ابن الرومي مرات محددة، إلى جانب عزف الناي والدف الخفيف، ثم يبدأ الدوران بسرعة مع انحناء الرأس، أو اتكائه على زند اليد، كمؤشر لسرعة حركة الكون اللامنتهية.
ويربط هاليل انتشار الرقصة بمحبة الملا الرومي، وفكره الصوفي المتسامح، "فخلال حياته وبعد وفاته انتشرت طريقته والتكايا في معظم الولايات العثمانية، سواء داخل تركيا الحالية، أو في البلاد الإسلامية، وحتى في بلدان أوروبية". 

ولأن مكان المنشأ والانتشار هو ولاية قونيا، لا بدّ من الإشارة إلى أهم معلم في أكبر محافظة تركية تشكل بداية التاريخ التركي ومهداً للكثير من الحضارات التي استوطنتها واتخذتها عاصمة ثقافية واقتصادية، وإن كان للسلاجقة والمسلمين النصيب الأوفر، وهو متحف جلال الدين الرومي الذي بني عام 1274، وأضيفت له أقسام الجامع عام 1854، ثم تحوّل إلى متحف عام 1927 يجمع كل ما يتعلق بتعلّم الطريقة الصوفية من ملابس رقصات المولوية، ومعدات وأجواء موسيقية روحانية، إضافة إلى أضرحة الرومي وأفراد من أسرته وأصدقائه من أتباع هذه الطريقة.
ويستضيف المتحف سنوياً، خلال ذكرى وفاة مولانا "صبح العروس" احتفالات لم تنقطع إلا بعدما أسس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية عام 1923، ثم نظمت مجدداً بحضور تركي وعالمي.

المساهمون