رفح المنكوبة... الإجرام الإسرائيلي أحال المدينة ركاماً

24 يناير 2025
مشهد من الدمار الكبير في رفح، 23 يناير 2025 (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت رفح دماراً هائلاً نتيجة العدوان الإسرائيلي في مايو 2024، حيث دُمرت 70% من المدينة، بما في ذلك المخيمات والمستشفيات، مما جعل الحياة شبه مستحيلة وأجبر السكان على العيش في مراكز الإيواء.
- تقع رفح على الحدود مع مصر وتعتبر بوابة القطاع للعالم الخارجي، واستضافت أكثر من مليون نازح منذ أكتوبر 2023، معاناة السكان تفاقمت بسبب تدمير البنية التحتية مثل شبكة المياه.
- وصف رئيس البلدية الدمار بأنه "زلزال"، وتعمل البلدية على خطة لإعادة الإعمار رغم نقص المعدات والموارد.

على غرار معظم المناطق في قطاع غزة، شهدت رفح دماراً كبيراً نتيجة العدوان الإسرائيلي والعملية العسكرية التي بدأها جيش الاحتلال في 6 مايو/أيار 2024، ما أدى إلى صعوبة إعادة إعمارها

يضاهي الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي على مدار أشهر في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، ما قد يحدثه زلزال قوي، إذ أدى إلى تدمير 70% من المدينة، وأعدم مقومات الحياة فيها. دمّر مخيماتها ومستشفياتها وشوارعها ومعظم أحيائها السكنية، والتي أصبحت أكواماً من الركام تروي مأساة المدينة المنكوبة.
دمر الاحتلال مخيمي يبنا والشابورة وبلوك "ج"، كما طاول الدمار شوارعها وأسواقها الرئيسية ومبنى البلدية الواقع في وسطها، ومستشفى أبو يوسف النجار، ومسجد العودة الذي كان يتميز بنصب تذكاري لمجسم قبضة يد تحمل مفتاح العودة، ودوار النجمة حيث يوجد نصب تذكاري يعلوه صاروخان للمقاومة، ودوار الشهداء في قلب المدينة، ورياض الأطفال والمدارس والمركز الثقافي، وشبكة المياه.
يعود تاريخ تأسيس رفح إلى نحو خمسة آلاف عام، وتقع في أقصى جنوبي القطاع على الحدود مع مصر، وتعد بوابة القطاع على العالم الخارجي لوجود معبر رفح فيها، وعلى بعد 4 كيلومترات، يقع معبر كرم أبو سالم، ومنه تدخل البضائع بعد فحصها من قبل جيش الاحتلال، وهي المدينة التوأم لرفح المصرية. 
منذ بدء العدوان على غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، استضافت المدينة أكثر من مليون نازح عاشوا في ظروف إنسانية قاسية. وتقدر مساحتها بـ 63 كيلومتراً مربعاً، وبلغ عدد سكان المحافظة قبل العدوان نحو 260 ألف نسمة، بينما تعداد سكان مدينة رفح نحو 191 ألف نسمة، بحسب أرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2021.
لم يبقَ من معالم مدينة رفح إلا الأسماء بعدما أتت آلة الدمار الإسرائيلية على كل شيءٍ. وكانت ملامح الفرح تعلو وجوه النازحين لحظة بدء العودة إلى المدينة، قبل أن تتحول إلى صدمة بعد الوقوف على ركام منازلهم محاولين انتشال بعض الأغراض.
دوار النجمة الذي كان واجهة المدينة، ومنه تتجه السيارات نحو مدينة خانيونس، تعرض للدمار. وإلى جواره كانت تنتشر المحال التجارية. وفي وسط الطريق المتفرع منه والمؤدي نحو الغرب، تنتشر متنزهات وألعاب للأطفال أصبحت عبارة عن أكوام من الحجارة. 

قضايا وناس
التحديثات الحية

عند الدوار، كان الفلسطيني نمر مقداد يحاول إيجاد سيارة تنقله إلى مدينة دير البلح (وسط) بعد انتشال ملابس أطفاله من منزله المدمر. يقول لـ "العربي الجديد": "استغرقت وقتاً طويلاً في البحث بين الركام وإزالة الحجارة حتى استطعت إخراج الأكياس الثلاثة، وكنت آمل إخراج أغطية شتوية لحماية أطفالي من البرد لكنني لم أجد أياً منها. كانت فرحتنا كبيرة بالعودة وسرعان ما تبدلت مع مشاهد الصدمة والدمار، وهذا ما سيجعلنا نمكث فترة غير معلومة في مراكز الإيواء إلى حين تهيئة البنية التحتية في المدينة".
جاءت الفلسطينية أم أحمد أبو رياش، إلى منزلها للبحث عن رفات ابنها الشهيد محمد جلال أبو رياش تحت الأنقاض. كان الشوق يغمرها لإلقاء نظرة وداع أخيرة عليه، إلا أن أكوام الحجارة حالت دون ذلك رغم مساعدة أبنائها وبعض نساء العائلة. تقول لـ "العربي الجديد": "رغم صدمتنا بالدمار الكبير، كان هدفي الأول من القدوم إلى هنا دفن ابني. جعلوا رفح غير صالحة للحياة".
في شارع اسدود في مخيم الشابورة، خلّف الاحتلال دماراً هائلاً، ولم تبق معالم تدل المواطنين على منازلهم التي تحولت إلى ركام على مد النظر. على مقربة من المكان، كان غبار دبابات إسرائيلية يُشاهد بوضوح ويسمع صوت رصاصها باتجاه بقايا المنازل، ما جعل الناس يشعرون بعدم الأمان، إضافة إلى غياب مقومات الحياة. 

ينتظرن أي خبر عن المفقودين في رفح، 22 يناير 2025 (بشار طالب/ فرانس برس)
ينتظرن أي خبر عن المفقودين في رفح، 22 يناير 2025 (بشار طالب/ فرانس برس)

بين أكوام أحياء ومربعات سكنية مدمرة في المخيم، كان عصام غانم يحمل كيساً فيه ملابس، هي كل ما استطاع جمعه من ركام منزله الذي استغرقه التعرف عليه أكثر من ساعة. يقف على كومة الركام الأعلى في المنطقة، التي تكشف حجم الدمار الشاسع من الاتجاهات كافة، ويقول لـ "العربي الجديد": "عرفت بيتي من اللون الأصفر لبقايا جدار غرفة في البيت. كانت المنطقة جميلة، لكن لم يعد هناك سكان ولا بيوت. لم يبق إلا الرماد. لم أتخيل يوماً أن تصبح العمارات ملاصقة للأرض". 
جاء غانم من منطقة مواصي خانيونس على أمل أن يستصلح أجزاء من البيت، لكنه لم يجد بيته، ولا مقومات حياة في المنطقة. يقول: "دمروا كل شيء، وجرفوا البيوت والشوارع وشبكة الصرف الصحي. يستحيل عودة الحياة إلا بعد سنوات. جئت كي أحضر بعض من بقايا البيت".
كانت ملامح الصدمة بادية على وجه سلامة عابد. يقول لـ "العربي الجديد": "جئنا إلى هنا لتفقد بيوتنا التي دمرت ظلماً. الاحتلال يريد التدمير، وما نراه الآن يؤكد لنا أن الحرب كانت على كل شيء، الشجر والحجر والشيوخ والنساء والأطفال. الاحتلال يهدم ونحن نبني، وسنلد أطفالاً نربيهم على حب فلسطين. رغم قسوة المشهد وأثره فينا، سنعيش هنا كما عام 2000، عندما كنا نرجم جنوده بالحجارة".
لم يبقَ من ورشة أحمد عطية للسيارات سوى لافتة حمراء تحمل اسمه، إذ تحولت الورشة التي تبلغ مساحتها 250 متراً مربعاً إلى كومة ركام. كان يفتّش بين قطع غيار السيارات المدمرة عن بعض القطع التي يمكن إصلاحها. يقول: "كانت الورشة مشروع حياة لي ولأولادي. هذا كل ما تبقى، ورشة مدمرة بالكامل، وسيارتان محطمتان".
لم يفقد عطية ورشته فقط، بل فقد منزله الواقع في مخيم يبنا، والذي لم ينته من سداد أقساط بنائه. وما يزيد قهره أنه نقل بعض المعدات من الورشة إلى المنزل، معتقداً أنه سيكون أكثر أماناً، فأصبحت تحت الركام. 

يصعب العيش وسط الدمار الكبير في رفح، 22 يناير 2025 (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)
يصعب العيش وسط الدمار الكبير في رفح، 22 يناير 2025 (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)

رغم الدمار الكبير، حاول مواطنون إصلاح أجزاء من منازلهم في محاولة للسكن فيها، خصوصاً تلك التي تعرضت لأضرار جزئية ولم تدمر بالكامل. كان الستيني جمعة أبو سنيمة يحتمي أسفل ظل جدار متبق من منزله المدمر، ويحاول إشعال النار لإعداد الشاي، وإلى جواره رفوف كتبه التي نجت من العدوان، علماً أن منزله دمر بالكامل. كان أبناؤه يحاولون بواسطة أدوات حفر بدائية إزالة الركام وتأمين مساحة للسكن فيها. 
يقول لـ "العربي الجديد": "عندما رأيت المنزل بكيت بشدة، لأننا في حاجة ماسة إليه. استغرق بناء البيت سنوات طويلة من العمل. بيتي كان يؤوي 11 فرداً، وقد قررت إنشاء خيمة على مقربة منه، وعدم البقاء في مركز الإيواء، لأني لا أشعر بالأمان والراحة النفسية سوى في منزلي. ما يواسيني هو نجاة مكتبتي، فلكل كتاب ذكرى في قلبي". 
وطاول الدمار مخيمات وسط المدينة الذي يضم مستشفى الكويت التخصصي، ولم يستثن المنطقة الشرقية، وخصوصاً حي الجنينة، حيث مستشفى الشهيد أبو يوسف النجار. وإلى الغرب، دمر الاحتلال حي تل السلطان الذي يعد أحد أكبر أحياء المدينة، واختفت أبرز معالمه وأسواقه وشوارعه.

قضايا وناس
التحديثات الحية

يصف رئيس بلدية رفح، أحمد الصوفي، حجم الدمار بأنه "زلزال يتجاوز حدود الوصف والتخيل. جرى تدمير أكثر من 70% من المدينة، ونحن في حاجة إلى بناء مدينة جديدة، وليس إعادة إعمارها". ويؤكد لـ "العربي الجديد" أنه "لا يمكن إصلاح مدينة رفح بسبب الدمار الهائل. جرى تدمير قلب المدينة الذي يضم مخيمات الشابورة ويبنا وبلوك ج، وجرى هدم الأسواق والمستشفيات. لم يعد فيها شيء صالح للحياة".
ويوضح الصوفي أن "الاحتلال دمر البنية التحتية كلها، وخرجت شبكة المياه عن الخدمة. وجود الاحتلال بمسار فاصل بين الحدود المصرية والمدينة بنحو 700 متر، بحسب اتفاق وقف إطلاق النار، اقتطع 20% من المساحة التي أصبحت مناطق محرمة على الناس، وتوصف بأنها مناطق قتال خطيرة، وقد تعرضت طواقم البلدية العاملة بالميدان لإطلاق نار من دبابات الاحتلال، أدت إلى استشهاد 19 مواطناً في اليوم الأول لوقف إطلاق النار، إضافة إلى عدد من الموطنين لاحقاً".  
وحول مساعي البلدية لخلق حياة للمواطنين بالحد الأدنى من المقومات، يبين الصوفي أن "البلدية تعمل وفق خطة تدريجية لفتح الشوارع الرئيسية والفرعية، ثم فتح شوارع الأحياء، الأمر الذي يتطلب آليات ومعدات ثقيلة، وجهود عاملين، وكل ذلك غير متوفر. شبكة المياه تحتاج إلى مولدات وأنظمة تشغيل وهي غير متوفرة أيضاً، وفي انتظار دخولها من المعابر".

المساهمون