استمع إلى الملخص
- يشير النص إلى فقدان المنازل التقليدية التي كانت تراعي العوامل البيئية والمناخية، واستبدالها بمساكن حديثة غير مناسبة، مما يعكس نقص الوعي البيئي الحالي مقارنة بأسلافنا الذين ورثونا مساكن تطابق المواصفات البيئية.
- يدعو النص إلى إعادة التفكير في تصميم المنازل بما يتناسب مع البيئة المحلية، خاصة في ظل التحديات الحالية مثل انقطاع الكهرباء، لتحقيق التوازن بين الراحة والاستدامة البيئية.
وجدتها الجدة متعرّقة تهذي: "ضيّقوها. ضايقوها. صمّتوها. قصّروها. مرّضوها ومرّضونا". كان التيار الكهربائي قد هجر الأسلاك، وانضم إلى زمرة الراحلين مثلنا. فقد آثرنا النزوح نحو القرية بحثاً عن ملاذ آمن بعد اندلاع الحرب.
غير أن هذا الملاذ لم يعد ذلك المكان الذي يؤمّن لنا الحماية الكافية. فها هو هذيان الجدة يظهر ما اعترى بيوت القرية من تحولات جذرية على مستوى المعمار، إذ باتت تشبه بيوت المدينة، ضيّقة، ومنخفضة السقف، ومصمّتة، ومتزاحمة في مساحة لا علاقة لها بالراحة الحرارية أو العمارة الخضراء أو المساكن البيئية.
هل هو مجرد حديث منمّق عن مساكننا التي كانت تراعي العوامل البيئية والمناخية حتى آن قريب؟ هل كان أسلافنا بهذا القدر من الوعي البيئي حتى يورثونا مساكن تطابق المواصفات البيئية، قبل أن نقوم باستبدالها بما لا يناسب بيئتنا؟ وحين صدمتنا التجربة سعينا للتحليل وإطلاق المصطلحات اعترافاً منا بالخطأ؟
حظينا في طفولتنا باللعب وسط البيوت المتهدمة التي هجرها أصحابها إلى المدن في ظل سياسات تهمل التنمية المتوازنة، وتعمل على إفقار الريف، وتحرمه من الخدمات، بل تقحمه في نيران حروب لا تخمد، وحين زاد أوارها لم يجد سكان المدن من ذوي الأصول الريفية سوى الهجرة العكسية، ليقفوا على ما جنته أيديهم.
كانت تيارات الهواء البارد تصفعنا بين تلك الجدران السميكة، والفتحات الصغيرة تحت الأسقُف العالية، والنوافذ الواسعة التي تعاكس اتجاهات الشروق والغروب. ونقف مكتوفي الإدراك في الباحات، أو وسط الغرف ذات الأرضية الترابية الرطبة حتى في عز شهور الصيف.
لم توقفني عبارات (ضيقوها. ضايقوها. قصّروها) في هذيان الجدّة، لأن الأمر لا يحتاج إلى جهاز للقياس، لكني وجدت في عبارة (صمّتوها) إشارة إلى التخلّي عن الطين والمشتقات الغابية وأخشاب الأبواب والنوافذ، واستبدالها بالسقوف الإسمنتية، والجدران الرفيعة من الإسمنت والطوب الحراري، والأبواب والنوافذ الحديدية. الأمر الذي جاء بشكوى (مرّضوها ومرّضونا).
لا أظن أن الجدة كانت تعني مفهوم "البيوت المريضة"، بل تشير إلى تعرضها هي لأمراض الصدر من جراء الكتمة في الغرف الضيقة، خاصة حين ينقطع التيار الكهربائي الذي دخل ضمن قائمة المفقودات، مع الأمن والغذاء والاستقرار.
في الزمن الماضي، كنا نظن أن أهمية (الحوش) تكمن في توفير باحة حركة آمنة، بيد أننا أدركنا لاحقاً أن في الأمر قصد حماية المباني من الحرارة، إذ يقوم مساء بسحب الهواء البارد من أعلى كما يقول الخبراء، ليحل محل الهواء الساخن الذي يصعد إلى أعلى تحت الضغط، ليجد تلك الفتحات فيهرب منها.
فهل نعي الدرس ونعود إلى تصميم بيوتنا بما يتناسب مع بيئتنا حين يأتي وقت إعادة إعمار الديار؟
(متخصّص في شؤون البيئة)