تعفيش سورية... جرائم مستمرة رغم سقوط نظام الأسد

12 فبراير 2025
تعرضت مؤسسات سورية للنهب، 18 ديسمبر 2024 (قاسم رماح/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت سوريا انتشار "ثقافة التعفيش" التي شجعت على نهب المنشآت والممتلكات، مما أدى إلى ظهور أسواق للمسروقات في مناطق النظام، حيث استفاد الضباط والعناصر الموالية من هذه الموارد.
- مع سقوط النظام، تركت القوات مواقعها، مما أتاح الفرصة للنهب، حيث استولى المسلحون على الأسلحة والمعدات، وأُتلفت الوثائق لمنع وصولها للأهالي، وامتلأت دمشق بالأثاث المنهوب.
- ازدهرت الأسواق السوداء وسط تغاضي السلطات، حيث لجأ الناس لشراء السلع المسروقة بسبب الفقر، مما يتطلب قوانين رادعة وبدائل اقتصادية للحد من الظاهرة.

لم تسلم منشآت عامة ومؤسسات خدمية وممتلكات سورية خاصة من أعمال نهب وتعفيش خلال الفترة الماضية، في تذكير بما كان يجري قبل سقوط النظام

رسّخ نظام الأسد المخلوع "ثقافة التعفيش" في نفوس كثير من السوريين على مدار عقود، وكان البعض يعتبرون كل ما تصل إليه أيديهم من أموال وممتلكات "الطرف الآخر" غنيمة، من دون أدنى تفكير بأن ما يقومون به لا يمكن تصنيفه إلا جرائم سرقة.

واتبع النظام السابق سياسة التعفيش مع المناطق التي كانت حاضنة للمعارضة، لتطاول أعمال النهب كل البنى التحتية في هذه المناطق، وكان المقصود توريط الجيش والقوى الموالية له في تحمل مسؤولية النهب، وفي الوقت ذاته تأمين موارد مادية للضباط والعناصر، واستلزم هذا بطبيعة الحال فتح أسواق للمسروقات، ما لبثت أن انتشرت في أرجاء المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة النظام، لتستأثر بتجارة الأثاث المنزلي المستعمل والأجهزة الكهربائية، ومواد البناء بما فيها تجارة حديد الأسقف المهدمة.

وإبان سقوط النظام في سورية ترك عناصر الجيش وقوات الحلفاء العسكريون مواقعهم، العسكرية والمدنية، بشكل عشوائي، بهدف البقاء على قيد الحياة، ما سمح للبعض بسرقة بعض هذه المواقع. يقول الناشط الإعلامي هاني عزام لـ"العربي الجديد": "في الوقت الذي سارعت فيه الفصائل إلى الاستيلاء على السلاح والذخيرة والسيارات التابعة للجيش والقوى الأمنية، كان المسلحون الذين تمرسوا في أعمال السطو والسرقة وتجارة الممنوعات والمسروقات، والذين كانوا يتبعون الأجهزة الأمنية، يستولون على الأثاث المكتبي والمعدات الإلكترونية وما سهل  حمله ونقله، ويجتهدون في إتلاف ما تبقى من وثائق وسجلات تحسباً لوقوعها في أيدي الأهالي. لم يحرق عناصر الجيش والشرطة فرع الأمن الجنائي أو مديرية الهجرة والجوازات في السويداء، بل حرقها أفراد العصابات، والذين استباحوا ونهبوا كل شيء من أجل المنفعة المادية".

في العاصمة دمشق، وبعد أيام على سقوط النظام، امتلأت عدة شوارع بالأثاث المنزلي المنهوب، بعدما أعاده أفراد وجماعات ممن سطوا على منازل الفارين من مناطق سكنهم بعد أن شهدت معظم المحافظات السورية رحيل كثيرين باتجاه الساحل السوري، وتخليهم عن أماكن السكن والأثاث.

يقول أحد أهالي درعا جنوبي سورية لـ"العربي الجديد": "شاهدت بعيني قبل سنوات أثاث منزلي وهو يُعفّش ويُنهب، ونفس المشهد تكرر أمامي في مساكن أزرع بريف درعا بعد سقوط النظام. رغم أنني من المتضررين، إلا أنني وقفت بين جموع المتفرجين لأشاهد أعمال النهب والتخريب. لم أسمح لنفسي أن أشارك، أو أدع فكرة التعويض عن خسائري تطغى على سلوكي. لكني ما أزال حتى اليوم لا أجد أي فارق بين ما شاهدته في المرتين، بين أولئك الذين سطوا على منزلي، وبين هؤلاء الذين يسطون على منازل الغير، فالجهتان تسعيان للخلاص من الطرف الآخر، ومنعه من التفكير في العودة، وباعتقادي أن كل من شارك بأعمال النهب والسطو الجديدة يكرر نهج النظام السابق، وبعضهم كانوا يعملون لصالحه في الأساس".

ويقول ثلاثيني سوري، مبرراً سرقة منازل عناصر النظام بعد هروبهم، وسرقة مستودعات الذخيرة العسكرية، إن "السارق من السارق كالوارث من أبيه"، ويشير الرجل الذي طلب عدم ذكر اسمه إلى أن تسارع الأحداث التي رافقت مراحل سقوط النظام دفع معظم العاملين في الجيش والأجهزة الأمنية إلى الهرب من دون أي اعتبار للتركة الكبيرة من السلاح والمعدات وحتى الوثائق العسكرية، باستثناء الفروع الأمنية والتي تشكل خط الدفاع الثاني والأكثر تحصيناً ضمن المدن والمناطق السكنية، والتي وجدت متسعاً من الوقت لإتلاف ما أمكن من الوثائق قبل أن تسلم مواقعها أو تتخلى عنها.

جرى نهب منازل لعناصر النظام. 16 ديسمبر 2024 (فضل عيتاني/فرانس برس)
نُهبت منازل لعناصر النظام، 16 ديسمبر 2024 (فضل عيتاني/ فرانس برس)

بدوره، يقول أحد العاملين في فرع الأمن السياسي في السويداء، والذي طلب أيضاً عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إنهم علموا مسبقاً أن فصائل المعرضة المسلحة ستحاصر الفروع الأمنية وربما تحاول اقتحامها، وكانت الخطة أن يمنعوا سقوط الفرع بأي طريقة، سواء بإطلاق قذائف عشوائية، أو إثارة الفتنة والتحريض على الفصائل المهاجمة، وذلك قبل دخول رئيس الفرع وقائد الشرطة بمفاوضات مع الفصائل، حينها أصبح خروجهم أحياء شبه مستحيل، خاصة بعدما تخلى عنهم الجميع بسبب الضغط الشعبي وضغوط المسلحين.

يتابع: "تحولت الخطة إلى كسب الوقت من اجل إتلاف الوثائق والسجلات المهمة، ثم الخروج بأمان، وهنا بدأت تتسارع الأحداث ويضيق الوقت، خاصة بعد ورود معلومات تؤكد سقوط فرع المخابرات الجوية ومعظم الثكنات العسكرية، ما سرع استسلام طاقم الفرع، وخروجه من دون سلاح أو عتاد بضمانات الوصول سالماً إلى العاصمة دمشق. عندها أصبح الفرع خالياً من حرّاسه؛ كما حدث مع معظم المراكز الأمنية والشرطية والعسكرية، وباتت كلها خلال ساعات قليلة لقمة سائغة، وعرضة للتعفيش والنهب".

ومن مدينة جرمانا، يوضح منير السلمان لـ"العربي الجديد" أن "السنوات السابقة تميزت بازدهار الأسواق السوداء وسط تغاضي وتشجيع من السلطات الحاكمة، وأخذت تشهد تخصصات في أنواع السلع والمواد المعروضة للبيع بحسب المكان والتسويق، إذ اختصت بلدة الحرجلة بتجارة حديد الأسقف المهدمة والتجهيزات الصحية والكهربائية المستعملة، كما تخصصت أسواق جرمانا والسيدة زينب في الأجهزة الكهربائية الصغيرة المستعملة والأثاث المنزلي، ويعرف أهالي ريف دمشق أن العديد من الأبنية والشقق السكنية شُيدت على أنقاض أعمال التعفيش من المناطق الساخنة".

يضيف: "أذكر أن أكثر من وافد إلى جرمانا من بلدات دوما وحرستا والمليحة شاهد أثاث منزله الذي تركه للهرب من تلك البلدات، يباع في الأسواق، ونتيجة الأوضاع المتردية والفقر والحاجة، إلى جانب رخص المواد المنهوبة، لجأ معظم الناس إلى شراء بعض حاجياتهم من هذه الأسواق، ما شجع تجار السوق السوداء على التجارة بكل ما هو ممنوع، بداية من المواد المعفشة والمسروقات والمهربات وصولاً إلى تجارة المحروقات، حتى باتت هذه التجارة أسلوباً للعيش، وساهمت في إنتاج جيل من الشباب الذي لا يُقدر حجم الكارثة الناتجة هذه الأعمال، وبعضهم يجد تبريراً لها، حتى إن البعض وجد في سقوط النظام مبررات لهذه الجريمة، أو فرصة للانتقام".

ويوضح السلمان: "هذا النوع من التفكير يحتاج إلى قانون رادع، وإلى بدائل من الأعمال المنتجة. ربما لاحظ الجميع أنه في مقابل هدم العديد من الأكشاك في مدينة دمشق، ظهرت أسواق شعبية وبسطات متحركة ملأت بعض مناطق العاصمة مثل شارع الثورة، ما يدل على غياب الضابطة الشرطية حتى الآن".