تدمير البيوت والأحياء ينغص فرحة العودة إلى مدينة غزة

12 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 01:54 (توقيت القدس)
صدم حجم الدمار العائدين إلى مدينة غزة، 11 أكتوبر 2025 (حسن الجدي/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعرضت مدينة غزة لدمار شامل، حيث دُمرت البنية التحتية والطرق في الأحياء الجنوبية مثل الزيتون والصبرة وتل الهوى، وكذلك في شمال المدينة في أحياء التفاح والمنارة وشارع النفق ومنطقة جباليا البلد.

- يواجه السكان تحديات كبيرة في إعادة الإعمار بعد عودتهم، حيث طال الدمار أكثر من 75% من المدينة، مما يضعهم أمام خيارات صعبة بين العيش في مخيمات النزوح أو الهجرة.

- يعاني السكان من صدمة نفسية كبيرة نتيجة فقدان المنازل والذكريات، مما يزيد من معاناتهم ويؤثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المدينة.

تغيّرت معالم مدينة غزة تماماً، حتى أن أهلها لم يتعرفوا عليها، إذ لم يبق من الأحياء والشوارع سوى أطلال، وطاول الدمار مناطق واسعة وأحياء كاملة، وشمل البنية التحتية، بما فيها الطرق.

بعد مسير امتد ساعات عدّة، صدمت رؤية الأحياء المدمرة آلاف الفلسطينيين العائدين إلى مدينة غزة، الذين فجعتهم مشاهد البيوت المهدمة، وأصابهم الذهول خلال البحث عن ملامح مدينتهم، إذ أصبحت مناطق السياج الفاصل تُرى من وسط المدينة بعدما مسح جيش الاحتلال الإسرائيلي الأحياء الجنوبية، ولم يترك في المدينة سوى الأجزاء الغربية، التي توقفت عندها آلة التدمير نتيجة دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ.
كانت مدينة غزة مكتظة بنحو مليون شخص قبل النزوح الأخير، وغادر أكثر من نصفهم قسراً نحو الوسط والجنوب بعد أوامر الإخلاء الإسرائيلية، ومع بدء تراجع دبابات الاحتلال من شارع صلاح الدين وشارع الرشيد الساحلي، زحف عشرات الآلاف عائدين نحو المدينة، للمرة الثانية، بفرحة جديدة، مؤكدين ارتباطهم بمدينتهم، ليتكرر سيناريو المشهد ذاته الذي عادوا فيه إلى المدينة في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي.
يتركز الدمار الكبير في أحياء جنوبي المدينة، مثل الزيتون والصبرة وتل الهوى، بفعل تفجير العربات المفخخة والقصف المدفعي، ما أدى إلى تدمير معظم المنازل، فضلاً عن تجريف الشوارع، وليس الحال في شمالي المدينة أفضل كثيراً، إذ طاول الدمار أحياء التفاح والمنارة وشارع النفق، ومنطقة جباليا البلد، والمناطق المحيطة بها كمنطقة أبو اسكندر، وشارع الجلاء، وحي الشيخ رضوان، وحي النصر ومحيطه، وكلها كانت مناطق مكتظة بالسكان.

كانت مدينة غزة مكتظة بنحو مليون نسمة قبل النزوح الأخير، وعاد عشرات الآلاف إلى المدينة فور وقف إطلاق النار

اختار أحمد الخطيب العودة من مخيّم المغازي في وسط القطاع إلى مدينة غزة عبر شارع صلاح الدين، ونتيجة وعورة الطريق وانعدام وسائل النقل، استغرق الطريق أربع ساعات مشياً. يقول لـ "العربي الجديد": "رأيت الدمار في حي الزيتون عندما وصلت إلى المدينة، وكنت أعتقد أنه لا يوجد منطقة مدمرة أكثر من ذلك، ولكن حين وصلت إلى شارع الجلاء، وبدأت تتضح معالم حي الشيخ رضوان، انهرت، ولم أستطع إكمال طريقي إلّا بعد نحو ساعة من شدة الصدمة".
ويضيف الخطيب: "الدمار الذي رأيته غير مسبوق، فمنذ وصولي إلى داخل المدينة، ذهلت من هول ما رأيت. كان الدمار شاملاً، للبشر والحجر والشجر والأرصفة وأعمدة الإنارة وكل شيء، حتى أن شظايا العربات المفخخة ظاهرة في كل زقاق وشارع، وأسقف المنازل تفتتت وأصبحت كالرماد. لا شيء هنا يصلح للحياة، ولا مكان يصلح للسكن. قبيل الاجتياح الإسرائيلي، كانت هذه المناطق مدمرة جزئياً، لكن الأهالي رمموها بما استطاعوا من إمكانيات، وأحاطوا جدران المنازل المهدمة بالشوادر والأخشاب، وفتحوا الأسواق والشوارع، واستعانوا بالطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء. الوضع الآن مختلف تماماً".

دمار هائل ضرب أحياء مدينة غزة، 11 أكتوبر 2025 (حسن الجدي/الأناضول)
دمار هائل ضرب أحياء مدينة غزة، 11 أكتوبر 2025 (حسن الجدي/الأناضول)

لا يعتقد الخطيب أن الحياة ستنبض من جديد في المدينة قبل أن تجري إزالة الركام المتناثر، وبدء مرحلة الإعمار. ينظر بذهول إلى الدمار في حي الشيخ رضوان، ويقول: "الأمر يفوق طاقة الناس، ولن يستطيع مواطن بسيط إزالة ركام يحتاج لمعدات لا تتوفر في القطاع، ولا يستطيع حتى نصب خيمة على أرض ليست مستوية، ولا استخراج المياه من بئر مدمر. طاول الدمار أجزاء كبيرة من الحي الذي كان يتميز بعماراته السكنية المتلاصقة، وهو يتكون من ثلاثة شوارع، الأول يضم السوق، ويتصل ببركة الشيخ رضوان، والثاني شارع داخلي، والشارع الثالث الواصل بين الحي ومنطقة جباليا البلد، وكلها تعرضت للتجريف، ما يمنع مرور المركبات".
أصيب الأكاديمي الفلسطيني منصور أبو كريم بحالة من الذهول عندما وصلته صور لمربعه السكني الواقع قرب منطقة البرج الإيطالي في شارع النصر، إذ طاول الدمار معظم العمارات السكنية بالمنطقة، وما لم يُدمّر بالكامل تعرض لأضرار كبيرة. 
يقول أبو كريم الحاصل على الدكتواره في العلوم السياسية، لـ"العربي الجديد": "دُمر منزلي خلال الأسبوعَين الأخيرَين، والاحتلال أنهى تدمير أحياء الدرج والزيتون والصبرة والشيخ رضوان والنصر، وتدمير الأحياء الغربية جزئياً. لم تحصل آلة الدمار على الوقت الكافي لمسح المدينة بالكامل نتيجة التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار. أمر مؤلم أن ترى منزلك وذكرياتك وحياتك مدمرة، وستستمر المعاناة لسنوات قادمة بعدما طاول الدمار أكثر من 75% من المدينة. التدمير الكبير يضع السكان أمام تحديات إضافية، والهدف هو القضاء على كل مقومات الحياة لوضع الناس أمام خيارات صفرية، فإمّا العيش في مخيّمات النزوح، أو الهجرة".
نزح علاء أحمد (35 سنة) مع زوجته وطفله قبل شهر واحد إلى جنوب القطاع، بعد اشتداد القصف الإسرائيلي على المنطقة، بعدما أغلقوا باب منزلهم في وسط شارع الجلاء، على أمل أن يفتحوه مجدداً مع إعلان وقف إطلاق النار، وكانا يتحضّران للعودة بنفس الشوق واللهفة التي شعرا بها خلال العودة الأولى في يناير الماضي، لكن قبل أن يتوجها نحو المدينة، وصلهم مقطع فيديو للبيت المدمر.

المئات من منازل غزة تحولت إلى ركام، 11 أكتوبر 2025 (معز صالحي/الأناضول)
المئات من منازل غزة تحولت إلى ركام، 11 أكتوبر 2025 (معز صالحي/الأناضول)

بعد العودة، وقف أحمد وزوجته أمام عمارتهم السكنية التي طاولها الدمار، يحاول حبس دموعه بينما زوجته في حالة صدمة تذرف دموع حسرتها على تشرد جديد. تقول الزوجة لـ"العربي الجديد": "يمثل البيت وطناً صغيراً، ومن دونه تنعدم فرحة العودة، فكيف تفرح عندما لا تجد مكاناً يؤويك، أو جدراناً تسترك، خاصة أننا ولدنا في بيوت عائلاتنا اللاجئة، وعشنا حياتنا في مساكن بالإيجار، وبعد تسع سنوات من الزواج اشترينا هذه الشقة بمبلغ كبير قبل الحرب بعامين فقط، ولم نسدد كامل الأقساط بعد. طاول الدمار نصف البناية، وأدى القصف إلى تدمير الدرج بالكامل، ما يجعل الصعود إلى الطوابق السليمة مستحيلاً. كانت تحفة معمارية، ومشيدة بنظام عصري حديث، وبها الخدمات كافّة".
لم يكن دمار الشقة وحده هو ما صدم علاء وزجته، إذ لم يتخيّلا أن يجدا في شارع الجلاء هذا الحجم الهائل من الدمار، فعلى امتداد المنطقة الواصلة من مفرق الغفري إلى نهاية الشارع الواصل بين مدينة غزة وشمالي القطاع، دمر الاحتلال معظم المنازل على جانبَي الطريق، إضافة إلى تجريف الأسفلت.
يقف أسامة لبد على مفرق بين شارعي الجلاء والعيون يطل على بركة الشيخ رضوان، ونظرات الذهول في عينيه، إذ يرى السياج الفاصل بوضوح من هذه المنطقة بعدما سويت أحياء الدرج وبلدة جباليا البلد بالأرض، لتصبح المنطقة التي يقف فيها أشبه بمنطقة حدودية.
ونتيجة شدة الدمار الذي طاول منطقة بركة الشيخ رضوان ومحيطها، لم يستطع أسامة الاستدلال على حارته، التي ابتلع الدمار ملامحها، يقول لـ"العربي الجديد": "لم نكن نستطيع رؤية مناطق السياج الفاصل في السابق، لأنّ الأبنية والعمارات الممتدة على مسافات طويلة كانت تحجب الرؤية. الآن كلها دمرت، والدمار على مد البصر. انسحب الاحتلال من المدينة ولم يترك أي معالم للحياة فيها".
وقبل الاجتياح الأخير، كانت شوارع المنطقة بحالة جيّدة، وبنيتها التحتية وخطوط المياه سليمة، وتحولت البركة المخصّصة لتجميع مياه الأمطار إلى بركة لتجميع مياه الصرف الصحي بعد تدمير الاحتلال محطات المعالجة، ونتيجة هذا الدمار ستواجه المدينة كارثة صحية.

عاد محمد الحرتاني للتو من منطقة جباليا البلد، وعلى وجهه علامات الذهول، إذ وجدها مدمرة بالكامل، وهو يشبه الدمار فيها بما جرى في أحياء مدينة رفح. يقول لـ"العربي الجديد": "مشاهد الدمار مرعبة، إذ لم يتبق منزل أو مسجد أو مدرسة، ولا بنية تحتية ولا خطوط مياه، ووضع الناس كارثي، وكل من قابلتهم هناك كانوا في حالة صدمة".
قبل يوم واحد من دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، وصلت إلى وسام أبو سلطان صورة للعمارة السكنية من أحد أقاربها، وكانت البناية لا تزال قائمة، ما أنعش أمالها بالعودة الممزوجة بفرحة وجود البيت الواقع في نهاية شارع الجلاء، لكن صباح الجمعة، ومع بدء انسحاب قوات الاحتلال من شوارع المدينة، ذهب نفس القريب لتأمين البيت إلى حين عودة أصحابه، ليجد النار مشتعلة فيه، لتكوي الصورة الثانية قلوب أصحابه في مكان نزوحهم بمدينة دير البلح.
ترثي أبو سلطان مصابها قائلة لـ"العربي الجديد": "البيت مكون من ثلاث طبقات، وبنيته على مدار سنوات طويلة، وكان بمثابة حلم العمر، وفي كل طابق كان يسكن أحد أبنائي المتزوجين، ولم نستطع نقل الأثاث الذي اشتريناه بمبالغ كبيرة، وكله احترق. كنت أنتظر بفارغ الصبر العودة إلى منزلي لأنني تعبت من النزوح، والآن ضاعت كل محتوياته".

المساهمون