تدريس الإنكليزية في الجزائر... ثورة تربوية أم قرار سياسي؟

تدريس الإنكليزية في الجزائر... ثورة تربوية أم قرار سياسي؟

24 يونيو 2022
اعتمدت الجزائر الإنكليزية في التعليم ابتداءً من المرحلة الابتدائية (العربي الجديد)
+ الخط -

بعد سنوات من التردّد السياسي والمطالبات الأكاديمية والبيداغوجية (التربوية)، حسمت الجزائر أمرها أخيراً واتّخذت قراراً بتدريس اللغة الإنكليزية منذ بداية المرحلة الابتدائية. وبقدر ما يثير القرار ارتياحاً لافتاً في البلاد، خصوصاً لجهة مواكبته التطوّرات الحاصلة في العالم، بقدر ما يأخذ بعداً سياسياً يرتبط برغبة جزائرية جامحة وكامنة منذ عقود في التخلص من اللغة الفرنسية ومن التبعات الثقافية المترتّبة عمّا يعدّه الجزائريون "غنيمة حرب".
منذ إعلان الرئاسة الجزائرية قرار مجلس الوزراء، يوم الأحد الماضي، "اعتماد اللغة الإنكليزية، بدءاً من الطور الابتدائي، بعد دراسة عميقة للخبراء والمختصين"، تكون الجزائر قد قطعت خطوة أولى نحو "الانتقال اللغوي" بعد ستة عقود كانت فيها اللغة الفرنسية وحدها اللغة الأجنبية المدرجة في مقرّرات التعليم الابتدائي في البلاد لأسباب يتعلّق بعضها بموروث ثقافي من الفترة الاستعمارية. وقبل ذلك، تصاعدت الدعوات إلى إلغاء تدريس الفرنسية أو تأخيره، وتقديم اللغة الإنكليزية إلى المرحلة الابتدائية في المقرّرات التعليمية في الجزائر بديلاً عن اللغة الفرنسية، في مسعى يتّخذ بُعداً علمياً مرتبطاً بمواكبة التطوّرات العلمية الحاصلة في العالم. وقد تزايدت هذه الدعوات خصوصاً مع اندلاع تظاهرات الحراك الشعبي في الجزائر في فبراير/ شباط 2019، لاستبعاد اللغة الفرنسية من المقرّرات التعليمية.
وتقترن المطالبات في الجزائر بتدريس اللغة الإنكليزية، في الغالب، بمطلب استبعاد اللغة الفرنسية، وتؤدّي الأسباب السياسية الدور الرئيس في ذلك. فالجزء الأكبر من الجزائريين يظنّون أنّ تدريس الإنكليزية هو السبيل الأسلم لتحقيق غايتَين، الأولى هي التخلّص من الهمينة اللغوية الفرنسية في الجزائر، الأمر الذي يقلّص إلى حدّ كبير عقوداً من التبعية الثقافية لفرنسا. أمّا الغاية الثانية فهي مواكبة التطوّر العلمي الحاصل في العالم بفعل انتشار اللغة الإنكليزية وتأثيرها واستخداماتها الواسعة وضرورتها في كلّ المجالات، لا سيّما الاقتصادية والتجارية وفي قطاع الخدمات وغيرها. وتتّخذ هذه المطالبات من نجاح تجربة بعض الدول والمستعمرات الفرنسية السابقة، في التحوّل اللغوي من الفرنسية الى الإنكليزية، من قبيل رواندا وفيتنام، وما رافقها من تطوّر على صعيد التنمية البشرية والعمران والاقتصاد والانفتاح على العالم، نموذجاً حيّاً يشجّع على خوض التجربة.

لكنّ المسألة لا تتعلق برغبة شعبية أو بقرار سياسي، بقدر ما تخضع إلى مجموعة من العوائق والمرتكزات البيداغوجية التي يستدعيها تطبيق قرار تعليم اللغة الإنكليزية وإحلالها محلّ الفرنسية منذ المرحلة الابتدائية، وتوفير الشروط الضرورية لتدريس هذه اللغة والإمكانات البشرية بالدرجة الأولى، فضلاً عن تمويل هذا القرار في علاقة بالتكوين والتحسين وكتلة الأجور لهذه الفئة الجديدة من المدرّسين.
على صعيد الكادر التعليمي، لا تملك الجزائر في الوقت الحالي العدد الكافي من مدرّسي اللغة الإنكليزية، ويوضح العضو في نقابة عمّال التربية عبد الله مجاهد (نقابة تدافع عن حقوق المهنيين في قطاع التعليم في الجزائر) أنّه "بعملية حسابية فإنّ الجزائر تحصي أكثر من 50 ألف مدرسة تضمن التعليم العمومي المجاني في المرحلة الابتدائية، وهو ما يعني أنّ وزارة التربية مطالبة بتوفير ما يوافق 50 ألف معلّم لغة إنكليزية كحدّ أدنى، فيما لا تملك الجزائر في الوقت الحالي ربع هذا العدد، وما تخرّجه المعاهد والجامعات من متحصلين على شهادة اللغات واللغة الإنكليزية خصوصاً لا يتعدى الـ500 سنوياً، وهو عدد قليل جداً".
بحسب ما يفيد أكاديميون وخبراء كثيرون في علوم التربية واللغات، فإنّ تحقيق الانتقال اللغوي وتدريس اللغة الإنكليزية كقاعدة لغوية أساسية في الجزائر يستدعي إجراء دراسات معمّقة حول الواقع التربوي وتعليم اللغات في الجزائر، وتوفير الوسائل الضرورية لنجاح العملية، والمرور في مرحلة انتقالية تتطلب في الوقت نفسه زيادة حصص اللغة الإنكليزية للتلاميذ الذين لم يتعلّموها في المرحلة الابتدائية، من أجل تحقيق حدّ مقبول من التوازن في معرفة اللغة بين مكوّنات جيل تعليمي معيّن.

الصورة
تلاميذ في المرحلة الابتدائية في الجزائر 2 (العربي الجديد)
صارت الإنكليزية اللغة الأجنبية الثانية إلى جانب الفرنسية في المنهاج الجزائري (العربي الجديد)

في هذا الإطار، يقول الخبير في البيداغوجيا محمد بلمكي لـ"العربي الجديد" إنّ "الأمر يتطلب دراسة واعية وتوفير الوسائل اللازمة، إذ لا ينبغي أن تُدار المسألة التعليمية بقرار ارتجالي قد يكلّف المنظومة التربوية الكثير، ومن المهمّ تشكيل لجنة خبراء من المسؤولين عن القطاع ومدرّسين ومقرّرين متخصصين بالمناهج التربوية، لوضع الإطار الملائم لتعديل تعليم اللغات". يضيف بلمكي أنّه "من المهم أن نعلم أنّ اللغة في هذه الحالة سوف تدرّس كمادة تعليمية وليس كلغة للناطقين بها".

وحتى الآن، لم تتّضح الرؤية بعد بشأن قرار تدريس اللغة الإنكليزية في الجزائر، ويحثّ الخبراء السلطات على اختيار الأطوار الدراسية المناسبة لذلك، وفقاً لقدرات التلميذ الذهنية وكفاءته المعرفية، وهو ما يحدّده الخبراء وأصحاب الشأن التربوي، خصوصاً أنّ إدراج لغة ثانية إلى جانب اللغة العربية وثالثة إلى جانب اللغة الفرنسية في مرحلة البناء المعرفي عند الطفل، يعدّه خبراء "تشويشاً على قدرات التلميذ".
في السياق نفسه، يقول الأستاذ الجامعي حسين دوحاجي إنّ "قرار اعتماد اللغة الإنكليزية كلغة للدراسة والتعليم سوف يكون قراراً جيداً ومجدياً، إذا جاء في سياق خطة متكاملة لإصلاح العملية التعليمية في البلد على المدى البعيد والمتوسّط على أقلّ تقدير. فتراعي هذه الخطة معالجة مشكلة الفجوة اللغوية وتتدرّج لاحقاً إلى تدارك العجز في اللغات الأجنبية، على أن يكون ذلك في سياق علمي معرفي مجرّد بعيداً عن المناكفات والتوظيف السياسي والأيديولوجي والحسابات الضيقة". يضيف دوحاجي أنّه "لا بدّ من دراسة القرار بشكل لا يفاقم مشكلة العوز اللغوي، فينتج جيلاً لا هو متملك ناصية لغته الأمّ ولا هو متمكّن من مبادئ اللغات الأجنبية الحيّة الأخرى كما هو حاصل الآن".

المساهمون