استمع إلى الملخص
- شهدت المنطقة مجزرة في يونيو 2024، حيث توغلت الدبابات الإسرائيلية في مخيم النصيرات، مما أدى إلى استشهاد أكثر من 200 فلسطيني، مع استمرار القصف الذي أجبر العائلات على النزوح.
- الاعتداءات الإسرائيلية مستمرة، حيث يتم استهداف أي حركة ليلية، مما يفاقم معاناة السكان ويزيد من صعوبة الحياة في ظل الظروف القاسية.
تحول طريق "تبة النويري" في وسط قطاع غزة إلى مصيدة للموت، لكونه جزءاً من الطريق الساحلي المؤدي إلى "محور نيتساريم" الذي أقامه جيش الاحتلال للفصل بين شمالي القطاع وجنوبه.
تُعرف "تبة النويري" الواقعة غربي مخيم النصيرات وبلدة الزوايدة في وسط قطاع غزة، بـ"طريق الموت"، لكونها تقع في نهاية الطريق الساحلي المؤدي إلى ما يعرف حاليا بـ"محور نيتساريم"، والذي تتمركز فيه قوات عسكرية إسرائيلية كي تفصل مدينة غزة ومحافظة الشمال عن وسط القطاع وجنوبه.
وتكشف الطريق بلدات وسط القطاع، وكثيراً ما تطلق منها آليات الاحتلال الرصاص على أي جسم يتحرك بالقرب من التبة، وتطلق دباباته القذائف العشوائية على خيام النازحين ومنازل المواطنين التي أصبحت شبه مهجورة. ويسلك السائقون القادمون من مدينة دير البلح أو بلدة الزوايدة طريق التبة باعتباره الوحيد باتجاه الشرق للوصول إلى مخيم النصيرات "الجديد"، وهو ذاته الطريق الذي توغلت فيه عشرات الدبابات الإسرائيلية، وارتكبت مجزرة دموية خلفت أكثر من 200 شهيد في يونيو/ حزيران 2024.
فجر 24 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فوجئ معتز عايش، الذي كان يسكن بمخيم إيواء على "تبة النويري"، بسقوط ست قذائف مدفعية على المخيم، إحداها على خيمة جاره المسن أبو محمد العمري، والذي استشهد مع زوجته وابنه. حمل معتز أطفاله وركض مع الكثير من سكان المخيم إلى أسفل التبة مع استمرار القصف الذي استمر لعدة ساعات، وحين عاد وجد الخيام محترقة وأشلاء عائلة العمري تملأ المكان، ما دفعه لنصب خيمته في أسفل التبة داخل أرض محاطة بجدار، معتقداً أن ذلك سيمنحه بعض الأمان بعد تفكيك المخيم ورحيل جميع العائلات النازحة.
يسلك القادمون من دير البلح والزوايدة الطريق إلى مخيم النصيرات
بعد عشرة أيام، وأثناء وقوفه على بوابة الخيمة، أطلقت طائرة مسيرّة (كواد كابتر) رصاصة اخترقت يد عايش واستقرت بمنطقة الصدر، الذي يروي لـ"العربي الجديد": "كنت أقف مع جاري، وعندما أصبت صرخت. في البداية اعتقدَ أنني أبالغ، لكن عندما شاهد الدماء، نقلني إلى المشفى".
بينما يلهو طفلاه بجواره داخل الخيمة التي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، لا تفارق ذاكرته الأحداث التي عايشها عند التبة. يقول: في يوم الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل، في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، اعتدى جيش الاحتلال على النازحين، وقتل ما يقارب 80 منهم، ولم يتم انتشال جثامين معظمهم حتى الآن. بعد هذا اليوم، أصبحت التبة خاوية تماماً، ويتم استهداف أي شيء يتحرك فيها مساء، مع حركة محدودة للغاية في النهار. أي شخص يتجاوز المكعبات الإسمنتية باتجاه الشمال يتم استهدافه. أذكر محاولة مسن يتكئ على جهاز مساعد للمشي الحركة، معتقداً أن سنه ووضعه الصحي سيشفعان له، لكنهم قتلوه، وفعلوا ذلك أيضاً مع طفل من ذوي الإعاقة يدعى يزن الشوبكي (تسع سنوات)، عندما ضل الطريق. كنا نشاهد الكلاب والغربان تأكل جثث الشهداء الملقاة في الطريق، ولا نستطيع فعل شيء".
وفي تحقيق نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية، الشهر الماضي، اعترف ضباط إسرائيليون خدموا في "محور نيستاريم" بأن الجيش يقتل بالرصاص كل فلسطيني يقترب من المنطقة، حتى لو كان طفلاً، وأنه يترك الكلاب تنهش جثثهم، وكشف التحقيق أن الجنود يسمون المحور "خط الجثث"، وتتنافس الفرق العسكرية في قتل أكبر عدد من الفلسطينيين بالمنطقة.
وتنتشر بالقرب من "تبة النويري" مخيمات عديدة للنازحين. يعيش خلدون الصعيدي وعائلته في مخيم مجاور للتبة، وبسبب القصف والرصاص العشوائي تناقصت أعداد الخيام من 120 إلى أقل من 20 خيمة. يقف في وقت الظهيرة مع بعض الجيران في ممر المخيم، وقبالته مباشرة زورق إسرائيلي متوقف في المياه، بينما يقوم زورق آخر بجولة تمشيط، ولا تخلو السماء من أصوات الطائرات الحربية بدون طيار.
يقول الصعيدي لـ"العربي الجديد": "نعيش في أقرب أماكن النزوح إلى محور نيتساريم الذي لا يبعد عنا سوى 500 متر، أخطر ما يهددنا هو صعود الدبابات على التبة وإطلاق الرصاص العشوائي. نعيش في خطر دائم، فالطيران المسيرّ يهبط إلى مستويات منخفضة، ويطلق الرصاص على مخيمنا، وبعد السادسة مساءً يفرض علينا حظر تجول، والجميع يلتزم الخيام، لكننا لا نستطيع النوم لأن الرصاص يتطاير فوق رؤوسنا، وشعور الخوف يلازمنا".
ورغم حالة الهدوء التي يبدو عليها الطريق في وقت الظهيرة، وبعض السيارات التي تسلكه، يصفه السائق أحمد علي بأنه "هدوء خادع"، إذ يمكن أن ينقلب الوضع في أي لحظة، فالدبابات تتقدم بين فينة وأخرى، وتطلق القذائف عشوائياً، ولا تفارق طائرات الاستطلاع السماء، والمسيرات تطلق الرصاص على خيام النازحين وبيوت المواطنين والصيادين لإرهابهم، وبهدف تفريغ المنطقة التي استشهد فيها العشرات وأصيب المئات.
وفي أسفل التبة، اعتاد صيادون صيد الأسماك لسنوات طويلة، لكن "هذا يكلفهم أحياناً حياتهم"، بحسب "الريس" أحمد أبو عجمي، الذي يقول لـ"العربي الجديد"، إن "طائرة مسيّرة ألقت قنبلة على قارب، ما أدى لاستشهاد الصياد أحمد أبو جحجوح (65 سنة)، الذي سبقه العديد من الصيادين الشهداء في المياه المقابلة للتبة، كما تعرض العشرات للإصابة".
رغم أن مسافة العودة من شاطئ البحر حتى منزله الواقع بالمخيم الجديد في النصيرات لا تزيد عن مسيرة 15 دقيقة، إلا أن أبو عجمي يسلك طريقاً التفافياً يمتد لنحو الساعة، وفي إحدى المرات عاد ليلاً ليجد دبابات إسرائيلية تقتحم المخيم وسط إطلاق نار كثيف.
ومن الأحداث التي لا ينساها، يوم الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل، حين قام جيش الاحتلال بارتكاب مجزرة دموية عبر إطلاق النار عشوائياً على الصيادين والنازحين. يروي: "هربت فور إطلاق الدبابات النار، ثم عدت صباحاً، فوجدت رؤوسا مقطعة، وأشلاء شهداء على رمال الشاطئ. قبل أيام، أطلق الزورق الإسرائيلي النار على الصيادين، ما دفعني لترك العمل والابتعاد مع بقية الصيادين، وهذا يعني حرمان 12 أسرة من قوت يومها".
ويصف الشاب محمد موسى، وهو نازح يقيم في خيمة قريبة من التبة، الحياة بأنها "رعب وخوف متواصل"، خاصة في ساعات الليل التي تنعدم فيها الحركة تماماً، إذ يتم إطلاق الرصاص بشكل عشوائي على أي حركة، وقد أصابت رصاصة طفلة من الجيران.
لم يتجاوز موسى بعد المشاهد القاسية التي عاشها خلال المجزرة الدموية التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في مخيم النصيرات، والتي أدت لاستشهاد أكثر من 200 فلسطيني، إذ اجتاحت دبابات الاحتلال المخيم في يونيو/ حزيران 2024، بعدما سلكت طريق تبة النويري. يقول لـ"العربي الجديد": "كانت الطائرات المروحية تحلق على ارتفاع منخفض، وتطلق الرصاص، وكذلك البوارج الحربية، وصعدت الدبابات إلى أعلى التبة، وبدأت بإطلاق الرصاص، إضافة إلى قذائف المدفعية. كنت أرى الناس يركضون حاملين صغارهم، والعشرات استشهدوا على الطرقات، وسقطت إحدى القذائف قربنا، واستشهدت فتاة كانت معنا".
يتابع: "بعد المجزرة، ونتيجة استمرار التوغل وتكرار قصف الدبابات، غادرت نحو 500 عائلة بيوتهم التي تقع على التبة أو القريبة منها، وكان من بين المهجرين سكان برج سكني يعود لعائلة التركماني، وكان يؤوي نحو 200 عائلة، وجرى لاحقاً قصف البرج وتدميره". بدوره، يقول الشاب محمد سكيك عن الحياة بالمنطقة: "كل ليلة، تحوم مسيرّات (كواد كابتر) في السماء، وكل فترة نسمع صوت قذائف الدبابات، وفي أوقات كثيرة تأتي الطائرة المروحية، وتقوم بإطلاق الرصاص. ذاكرتي تحتفظ بتفاصيل أيام دموية عدة، كان الرصاص فيها ينهمر فوق رؤوسنا، وطاول خزانات المياه وألواح الطاقة الشمسية، واضح أن هدف هذه السياسة هو إرعاب الناس وتشريدهم". يضيف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "التبة مرتفعة من ناحية الجنوب، وتبدأ بالانخفاض كمنحدر باتجاه مدينة غزة، لذلك تكشف معظم بلدات وسط القطاع، والناس يسلكون الطريق للتسوق من مخيم النصيرات نهاراً، لكن في الليل يصبح الطريق خاوياً، لأن الطائرات تستهدف أي حركة فوق التبة".
قبل شهرين، هدد الاحتلال بيت عمة سكيك الواقع قرب التبة، وبعد تهديد البيت بساعات، غادرت العائلة، وبعدها تم قصفه وتدميره، وهي سياسة يتبعها الاحتلال تجاه المباني المرتفعة بالمنطقة، والتي يتم استهدافها جميعاً. وفي الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أطلق الاحتلال نحو 30 قنبلة ضوئية على منطقة الخيام المجاورة للتبة، وكذلك على الشاطئ بجوار خيام النازحين.