بين الفرح والدموع.. حكايات العودة الأولى إلى الضاحية الجنوبية لبيروت

27 نوفمبر 2024
رجل لبناني أمام منزله المدمر في الضاحية الجنوبية/27 نوفمبر 2024 (محمد سلمان)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت الضاحية الجنوبية لبيروت عودة حذرة للأهالي وسط أجواء متوترة، حيث تفقد السكان منازلهم ومحلاتهم بين الركام، معبرين عن فخرهم بالنصر وصمودهم رغم الخسائر.
- في مناطق مثل معوض وبئر العبد، تجلت روح التحدي والإصرار، حيث بدأ السكان بإزالة الركام بأنفسهم، مع إجراءات أمنية لعناصر حزب الله، ومشاعر متناقضة بين الفرح والحزن.
- عودة الحياة كانت مصحوبة بروح الأمل، حيث أعاد أصحاب المحلات فتح متاجرهم، مؤكدين عزمهم على إعادة الإعمار واستعادة الحياة الطبيعية.

في تمام الساعة الثامنة والنصف صباح اليوم الأربعاء، بدا المشهد في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت حذراً. وسائل الإعلام وحشودها ترْقب عودة الأهالي وسط أجواء متوترة. ومع حلول الساعة التاسعة والنصف، تغير المشهد؛ أهالي الضاحية يتجولون بين الركام، يتفقدون منازلهم ومحلاتهم التجارية، بعضهم على دراجات نارية وآخرون في سيارات تبث أناشيد حزب الله وهتافات للمقاومة.

بين شوارع معوض وبئر العبد، وأوتوستراد هادي نصر الله ودوار حرقوص، وحتى مشارف الرويس، تتشابه روايات العائدين. الجميع يشيد بالنصر رغم الألم. بالنسبة لكثيرين، كانت الضاحية المحطة الأولى قبل التوجه جنوباً أو إلى البقاع لتفقد القرى والمنازل التي تركوها وراءهم.

في منطقة معوض، وقفت امرأة خمسينية على مدخل بنايتها، تحيط بها عدسات الصحافيين. بنظرة صامتة وحزن عميق، توجهت إليها مراسلة "العربي الجديد" وسألتها عن شعورها في تلك اللحظة. أجابت: "نحن بحالة حزن، لكن هذا نصرنا. أتيت إلى منزلنا في الضاحية قبل التوجه إلى قريتي دبين في قضاء مرجعيون. لم أستطع الصعود إلى المنزل، بينما زوجي يتفقد الأضرار. مررنا بشهري مآسٍ، لكننا عدنا إلى ديارنا".

في بئر العبد، كان كريم المقداد يقف أمام منزله، مصمماً على إزالة الركام بأدوات بسيطة، دون انتظار مساعدة من أحد. يعمل بجد، يزيح الحطام عن عتبة منزله، ويخطط لاستعادة الحياة إليه. يقول كريم لـ"العربي الجديد": "سأقوم بتنظيف المنزل، وإصلاح النوافذ المكسورة، وسأعيد عائلتي لننام هنا. الحرب كانت شرفاً لنا، وسنستمر بالصمود".

الصورة
شاب لبناني يزيل الحطام بعد العودة إلى الضاحية الجنوبية/مجتمع العربي الجديد
شاب لبناني يزيح الحطام عن عتبة منزله(محمد سلمان)

على مقربة من هناك، وسط إجراءات أمنية لعناصر حزب الله، خرج بعض الأهالي من أزقة الضاحية، يرتدون السواد، وعيونهم تفيض بالدموع التي عجزوا عن كتمها. مثل عائلة مزهر، التي فقدت أحد أفرادها خلال الحرب. تقول ليلي مزهر لـ"العربي الجديد"، بينما تتفقد منازل عائلتها المنتشرة في الغبيري وبئر العبد والرويس: "إحساسنا متناقض، بين الفرح والحزن. خسارتنا كبيرة، لكننا نتمسك بالأمل، وسنكمل رحلتنا لتفقد منازلنا في قريتنا زبدين (قضاء النبطية). لا نعلم ما إذا كانت لا تزال قائمة".

نبض الحياة يعود إلى الضاحية الجنوبية: أمل وصمود

تتصدر الدراجات النارية مشهد الفرح في شوارع الضاحية الجنوبية، حيث جاب أصحابها الأحياء على وقع هتافات المقاومة. شاب، شقيق أحد شهداء الميدان في الجنوب، يتحدث عن شعوره بالفخر رغم الألم، قائلاً: "نحن نعلم أن الحرب مهما طالت ستنتهي، بفضل المقاومين. من الطبيعي أن يكون الإحساس صعباً، لكن شهادة أخي وما نراه اليوم في الضاحية هما مصدر فخر لنا".

على دوار حرقوص الشهير، وقف حسن سبيتي، صاحب أحد متاجر الهواتف، ليعيد فتح محله التجاري. ينفض الغبار عن البضائع المتبقية، ويعرض إكسسوارات الهواتف، استعداداً لاستئناف العمل. يقول سبيتي: "ليس لدينا سوى الأمل لنكمل حياتنا ونعيد الحياة إلى الضاحية".

لم تمر عودة حسن دون لفت انتباه وسائل الإعلام الأجنبية، التي تهافتت على متجَره. بابتسامة ساخرة، قال حسن للصحافيين باللغة الإنكليزية: "نعجبكم لأننا نعرف أن نتكلم جيداً في كل اللغات".

على مشارف منزل عائلتها في الرويس، خرجت الشابة سحر غصن تغالب دموعها، وقالت لـ"العربي الجديد": "صحيح أن النصر عظيم، لكن الفقد كبير. عدنا إلى منازلنا، وخسرنا شهداء كُثراً". وأوضحت أنها تتوجه اليوم لتفقد منزل عائلتها في بلدة شمسطار ببعلبك، قائلة: "منزلنا في الضاحية لا يصلح للسكن حالياً، لذلك سنبقى في المكان الذي نزحنا إليه في القماطية بجبل لبنان".

أما زينب سلامة، القادمة من بلدة كونين الحدودية في قضاء بنت جبيل، فقد طغت روح الدعابة على حديثها. واصفةً حال منزلها المدمر، قالت: "الغبار سيغسله الشتاء، وسننظف المنزل، حتى لو لم يبقَ منه شيء". وأضافت: "من فقد أحد أفراد عائلته، ندعو الله أن يلهمه الصبر. بفضلهم، نعود إلى الضاحية وإلى الجنوب، وسنعيد بناء قرانا، كما فعلنا بعد حرب تموز 2006".

وفي مشهد آخر أمام محلاته المقابلة لمطعم حرقوص، وقف أبو الفضل صفا، مالك محلات صفا التجارية، ليعاين حجم الأضرار التي طاولت رزقه. يقول لـ"العربي الجديد": "نشعر بسعادة كبيرة رغم خسارتنا. تضررت ثلاثة محلات ومستودع، لكننا ننتظر رفع الأنقاض لنعيد فتح متاجرنا والبدء من جديد. هذا مصدر رزقنا الوحيد".

على أوتوستراد هادي نصر الله، بدأ سكان المنطقة بإزالة آثار الدمار واستعادة حياتهم اليومية. أمام محل للورود، يصر مالكه على وضع باقات الورود رغم الزجاج المتناثر، كرمز للأمل وسط الخراب. وفي الجوار، قام حسن ضيا، صاحب أحد متاجر الألبسة، بتنظيف متجره وعرض الملابس الصالحة للبيع. يقول ضيا لـ"العربي الجديد": "سنعود لتأسيس أعمالنا التجارية رغم الخسارة التي تجاوزت 15 ألف دولار أميركي".

جار ضيا، حسن عواضة، الذي يملك متجراً للملابس الرياضية، أكد أن الروح القوية التي يتميز بها أهل الضاحية هي ما يميز هذا المشهد. يقول عواضة: "ما ترونه اليوم ليس غريباً على الضاحية. الحياة ستستمر، وأضرارنا صغيرة مقارنة بالتضحيات التي قدمها الشهداء". وأضاف: "أصررت على فتح المتجر اليوم، وسأتوجه بعدها إلى قريتي بيت ليف (قضاء بنت جبيل) لتفقد الأضرار هناك".

حسن عطية، من بلدة الخيام الجنوبية وصاحب عدة فروع لسوبر ماركت في الضاحية، كان منهمكاً في إزالة ما أسماه "غبار النصر" عن متاجره. يقول عطية: "الحياة ستستمر، ونحن نعيد ترتيب رزقنا. الآن، أنتظر اللحظة التي أتمكن فيها من العودة إلى قريتي الخيام، الصامدة رغم كل شيء".

في نهاية الجولة، يجتمع عدد من الشبان لتناول وجبة "الترويقة" أمام ركام المنازل. ربيع سلامة، القادم من بلدة كفرصير (قضاء النبطية)، قال لـ"العربي الجديد": "هذا فطور النصر. أول خطوة هي إزالة الركام وتنظيف المنزل. تركت مكان نزوحي في شمال لبنان لأكون أول العائدين إلى منزلنا في الضاحية". هكذا، بين روح التحدي والإصرار على إعادة الإعمار، تعود الضاحية الجنوبية إلى الحياة، شاهدةً على صمود أهلها وشجاعتهم في مواجهة المحن.

المساهمون