بغداد السهر... تنزّه وتسوّق وضحكات وسط "نعمة الأمن"

بغداد السهر... تنزّه وتسوّق وضحكات وسط "نعمة الأمن"

07 يونيو 2022
يستعيد العراقيون متعة ليالي بغداد (سكوت بيترسون/ Getty)
+ الخط -

تشمخ في بغداد مبان جديدة عدة غالبيتها مراكز تسوق ومطاعم فخمة تدل على أن العاصمة العراقية بدأت تستعيد تألقها الذي اشتهرت به طوال عقود، بعدما نالت لسنوات نصيباً كبيراً من الدمار والخراب بسبب عدم الاستقرار الأمني. لكن لا يمكن الاستمتاع برؤية هذه الأماكن والجلوس فيها إلا خلال الليل، حين تزول الاختناقات المرورية، ويسود الهدوء الذي يسمح للسكان والزوار بالتجوّل براحة.

"مشكلة كبيرة" و"هم" عبارات يستخدمها سكان بغداد في حديثهم عن معضلة الازدحام المروري الذي يبدأ قبل الساعة الثامنة صباحاً، ويستمر حتى وقت الغروب في بعض الشوارع الحيوية المهمة، ما يحرمهم من التجول فيها خلال أوقات النهار، وتمضية أوقات للراحة ولقاء الأصدقاء في أماكن أضافت لمسة جمالية للعاصمة. وتزول هذه العبارات في الليل الذي يتحوّل إلى الوقت المثالي لكثيرين لتمضية الأمسيات برفقة الأصدقاء وأفراد العائلة.

يسكن رشيد عباس في منزل قريب من كورنيش دجلة من جهة حي الشالجية صوب الكرخ ببغداد. وبات هذا الكورنيش مركزاً سياحياً مهماً يضم مطاعم ومقاهي، بينها مقهى البيروتي العريق، أحد الأشهر الذي يتزين بالطابع التراثي في بغداد. وهو يعج ليلاً بالناس الذين يتنزهون ويقصدون المطاعم والمقاهي، ما جعله مكاناً مليئاً بالبهجة، وتصدح بين أرجائه الضحكات العالية. ويقول عباس لـ"العربي الجديد": "وفرت النزهات على الكورنيش عملاً جيداً لي في بيع أكلة اللبلبي الشعبية على عربة خشبية، ما جلب لي أرباحاً جيدة".

ويتأكد من يتجوّل ليلاً في العاصمة العراقية أن الأمن والهدوء يسودان مناطقها التي كانت تغرق في الظلام مبكراً في السنوات السابقة، مع تجنب أصحاب المحلات والمطاعم والمقاهي المخاطرة بمواصلة العمل لدى حلول الليل، والذي كان يمنح المليشيات المسلحة والعصابات المختلفة فرصاً أكبر لتنفيذ جرائم مختلفة.

انتهاء "الرعب"

وتشدد ماريا عادل، في حديثها لـ"العربي الجديد"، على أن "الأمن نعمة كبيرة"، وهو ما يردده جميع العراقيين حين يقارنون وضع عاصمتهم اليوم بما كانت عليه قبل سنوات. وتخبر ماريا، التي تعمل في صالون تجميل للنساء في حي زيونة ببغداد، أنها لم تواصل تعليمها الجامعي وأنهت علاقتها بكليتها حين كانت في السنة الدراسية الثانية عام 2007 "بهدف الحفاظ على سلامتي في ظل انتشار المسلحين على طول الطريق الذي كنت أعبره يومياً للذهاب إلى الجامعة، وهو ما دفع والدي إلى مطالبتي بترك الدراسة وملازمة البيت".

لكن الشارع نفسه الذي كان "يرعب" ماريا حين كانت طالبة جامعية، أصبح اليوم أحد أفضل أماكن نزهتها، "فهو يعج بالعائلات مساءً، وتستمر فيه الحركة حتى بعد منتصف الليل، وافتتحت فيه الكثير من محلات الترفيه والمطاعم والمقاهي ومراكز التسوق. وهذا التحوّل الكبير سببه الأمان الذي افتقدناه فترة طويلة، ولولاه لما وجدنا محلاً للسهر والاستمتاع بأجواء بغداد الليلية، ولما عرفنا أيضاً الازدحام المروري الذي يخنق نهارنا، ونحاول أن نهرب منه ليلاً، وإيجاد فسحة نحتاجها للاستمتاع".

الصورة
ليالي بغداد تعبق بالحياة (أحمد الرويبي/ فرانس برس)
ليالي بغداد تعبق بالحياة (أحمد الربيعي/ فرانس برس)

"كنوز" أخرى

ورغم التغيير الجذري الإيجابي الذي جلبه الأمن إلى حياة سكان بغداد، فهم يرون أن مدينتهم المحببة إلى قلوبهم تواجه ظلم عدم الاستغلال الجيد لمناطقها التراثية، التي تتعرض للدمار بفعل الإهمال أو ربما في شكل متعمد، في وقت قد يوفر حسن استغلال المؤسسات الحكومية لمعالمها أماكن إضافية تشكل متنفساً لهم.

تقول إسراء العامري، التي تعمل في منظمة إنسانية تعنى بالتراث، لـ"العربي الجديد": "أفضل على غرار عائلات كثيرة السهر في مناطق تراثية قديمة مزدحمة. وقد وثقت شخصياً مناطق عدة يفضلها العراقيون، بينها الأعظمية والكاظمية والكرادة والفضل وباب الشيخ التي تمضي العائلات أوقاتاً ممتعة في مطاعمها ومقاهيها الشعبية التراثية القديمة". تضيف: "بغداد مليئة بالكنوز المعمارية التراثية والأحياء القديمة التي يمكن تحويلها الى مناطق تجارية وسياحية وترفيهية في آن واحد، ما يزيد متعة التجوّل الليلي الذي يعوض عدم تجول المواطنين نهاراً بسبب الازدحام الخانق".

وما يزيد متعة التجوّل ليلاً في بغداد، أن جميع الناس باختلاف أوضاعهم الاقتصادية يمكن أن يسهروا فيها، فهي تضم أماكن تسمح لذوي الدخل المحدود بقضاء أوقات ممتعة، وكذلك أماكن مكلفة مادياً. والجميل أن هذه الأماكن قريبة بعضها من بعض، بحسب ما تقول سارة نوزاد (16 عاماً)، وهي طالبة في المرحلة الإعدادية، لـ"العربي الجديد"، لدى مرافقتها شقيقها للسهر والتجوّل. تضيف: "أتنزه ليلاً فقط، وأتسوق وأشتري ما أحتاجه لتجنب الازدحام، واستفيد من فتح الأسواق أبوابها حتى وقت متأخر. ويرافقني أخي غالباً ووالدي أحياناً". تتابع: "تعيش أسرتي بمدخول ضعيف نسبياً، لذا نختار أماكن قليلة الكلفة حين نتجوّل ليلاً. وكل شيء متوفر في الشوارع، إذ يقدم باعة جوّالون أطعمة رخيصة الثمن في الأسواق وعلى كورنيش نهر دجلة، ما يسمح لنا بتناول العشاء بثمن رخيص، وتمضية سهرة مجانية".

كذلك، يستفيد كثيرون من انخفاض عدد السيارات في الليل لممارسة رياضة المشي، خاصة كبار السن الذين ينصحهم الأطباء بفعل ذلك. ويقول رأفت عبد الحق (68 عاماً) لـ"العربي الجديد": "أؤجل موعد ممارسة المشي إلى الليل، واصطحب زوجتي معي أيضاً. وحاولت مرات أن أمارس رياضة المشي في شوارع بغداد أثناء النهار، لكنني لم أستطع أن أكمل كيلومتراً واحداً نتيجة الازدحام المروري الذي يتسبب بضجيج مزعج، والتلوّث الناتج من عوادم السيارات. أما أثناء الليل فأسير أكثر من خمسة كيلومترات برفقة زوجتي أو أحد أصدقائي، ويشعرني ذلك بمتعة وراحة وتزداد حماستي وسط أجواء ليلية يقل فيها عدد السيارات ويكثر الباحثون عن أوقات ليلية ممتعة". 

المساهمون