انتشال شهداء غزة... عائلات تتفحص جثامين متحللة وبقايا رفات

09 فبراير 2025
انتشال جثامين من محيط مستشفى كمال عدوان، 20 يناير 2025 (عبود أبو سلامة/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تواصل فرق الدفاع المدني في غزة جهودها لانتشال جثامين الشهداء باستخدام أدوات بدائية بسبب نقص المعدات الثقيلة، حيث تعيق إسرائيل إدخال المعدات اللازمة، مما أدى إلى صعوبات كبيرة في عمليات الإنقاذ.
- يواجه الأهالي تحديات في التعرف على الجثامين بسبب تدمير المختبرات وعدم القدرة على إجراء تحاليل DNA، مما يجعل الفحص الظاهري الطريقة الوحيدة المتاحة، ويعتمدون على الملابس والمقتنيات الشخصية للتعرف على أحبائهم.
- يعمل العاملون في الدفاع المدني بأدوات بسيطة وبدون معدات متطورة، مما يعرضهم لمخاطر صحية، ويزيد عدم توافر مواد التعقيم والأكفان من صعوبة المهمة، لكنهم يواصلون جهودهم لتخفيف معاناة العائلات.

تواصل فرق الدفاع المدني في قطاع غزة انتشال جثامين الشهداء من الشوارع ومن تحت ركام المنازل المدمرة، ثم تنقلها إلى المستشفيات كي يتعرف إليها الأهالي الذين أبلغوا عن مفقودين.

على مدار ثلاثة أيام، كرر الفلسطيني ياسر أبو غيث القدوم إلى مشرحة الجثامين بمجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، للبحث عن نجله الوحيد محمد (17 سنة) الذي فُقدت آثاره في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وهو يعتقد أن نجله ذهب إلى زيارة منزلهم الواقع في حيّ "الجنينة" إلى الشرق من مدينة رفح، واختفت آثاره منذ تلك المدة.
بملامح تروي قهر أبٍ في رحلة بحث عن مصير ابنه الوحيد إن كان حيّاً أو شهيداً، كان أبو غيث يفتش بين رفات شهداء وصل إلى مجمع ناصر، معظمه لم يبقَ منه سوى جماجم وعظام، وبعض الملابس والمقتنيات التي أحضرتها طواقم الدفاع المدني والإسعاف في أثناء عملية الانتشال لمساعدة الأهالي في التعرف إلى هوية الجثامين.
بعد جولة بين الجثامين والرفات لم يجد ابنه، ويقول أبو غيث لـ "العربي الجديد": "ابني ذهب إلى البيت في يوم فقدانه لإحضار جهاز إلكتروني، لأنه كان مولعاً بهذه الأشياء، وعند مغادرته لم يخبر أمه، ووقتها كنت في عملي. لم أفقد الأمل، ومنذ فقدانه أتنقل بين المستشفيات وركام البيوت، وأراقب قوائم الأسرى عله يكون معتقلاً، وذهبت إلى بيتي في رفح بعد انسحاب الاحتلال، وبحثت عنه بين الركام. منذ بدء وصول الجثامين، أحضر إلى المستشفى من منطقة مواصي خانيونس للبحث، وفي كل مرة تنتظرني أمه على أحرّ من الجمر، لعلّي أحمل إليها أي معلومة تبرّد نار قلبها، وكذلك شقيقاته الثلاث".

يبحث الدفاع المدني عن المفقودين في غزة تحت ركام المنازل وفي الشوارع

وخلف العدوان الإسرائيلي على غزة أكثر من 10 آلاف مفقود، أغلبهم تحت أنقاض المنازل المدمرة، فيما تواجه فرق الإنقاذ والدفاع المدني صعوبات في البحث نتيجة غياب المعدات الثقيلة، والاعتماد على أدوات بدائية.
وقال المرصد الأورمتوسطي لحقوق الإنسان إنه جرى انتشال 571 شهيداً من تحت الأنقاض في قطاع غزة، بواقع 30 يوميّاً، في حين تؤكد المعلومات الحكومية وجود آلاف المفقودين الذين يتعذر انتشالهم نتيجة مماطلة إسرائيل في إدخال المعدات اللازمة.
وفي وقت سابق، وصل 17 جثماناً إلى مجمع ناصر الطبي. يظهر داخل أحد الأكفان جمجمة وبعض عظام اليد، فيما كُتب على الكفن أنه "مجهول الهوية" واسم منطقة الانتشال، فيما توحي أسنان الفك بأن الشهيد فتى. في كفن آخر كان الشهيد معلوماً، ويحمل اسم حامد جميل خليل، وانتشل من حيّ الجنينة بمحافظة رفح في 23 يناير/ كانون الثاني.
وكُتب على كفنٍ آخر أن الشهيد مجهول الهوية، ومكان انتشاله مواصي رفح أسفل منزل المواطن ماهر الجبور، من دون ذكر تاريخ الانتشال. وبتاريخ 22 يناير، كتب على كفن آخر: "جثة عبارة عن رفات. موجود جمجمة وصدر وكتف وقطع أخرى".
فتّش الفلسطيني خالد أبو سنيمة جميع الأكفان، ودقق في تفاصيل الرفات والمقتنيات خلال رحلة بحثه عن شقيقه المفقود ياسر أبو سنيمة (53 سنة)، الذي اختفت آثاره في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
يقول خالد أبو سنيمة لـ "العربي الجديد": "نبحث منذ 50 يوماً عن شقيقي الذي فقدت آثاره عند مفرق (ميراج) شمالي رفح. مع كل خبر عن جثامين تُنتشَل، أحضر محاولاً التعرف إليه من طريق الملابس. طواقم الدفاع المدني والإسعاف تقوم بدور عظيم، وتحضر كل المقتنيات والملابس، الأمر الذي يساعد العائلات في التعرف إلى أبنائهم. نريد أن نعرف مصيره لأننا نعيش في قلق. كان شقيقي يعاني من مشاكل نفسية، وربما ضلّ طريقه، أو وصل إلى منطقة خطرة في أثناء وجود قوات جيش الاحتلال".
ونتيجة عدم اتباع إجراءات السلامة الكافية، يواجه فلسطينيون إمكانية تعرّضهم لمخاطر صحية ناجمة عن ملامسة أجزاء من الجثامين المتحللة، وبعضها تعرّض للنهش من الكلاب الضالة نتيجة منع الاحتلال عمل الدفاع المدني والإسعاف.

جثامين في مستشفى ناصر. 18 يناير 2025 (عبد الرحيم الخطيب/الأناضول)
جثامين في مستشفى ناصر. 18 يناير 2025 (عبد الرحيم الخطيب/الأناضول)

بعد رحلة بحث طويلة، تلقت داليا أبو غالي اتصالاً هاتفياً من الدفاع المدني، في 19 يناير/ كانون الثاني، تؤكد العثور على جثمان زوجها محمد سويلم، الذي فُقد في 3 أغسطس/آب الماضي، بعد استهدافه من طائرة إسرائيلية من دون طيار في أثناء توجهه لإحضار ملابس لأطفاله من منزله الواقع في الحيّ السعودي في حيّ تل السلطان غربي مدينة رفح.
قبل اتصال الدفاع المدني كان لدى أبو غالي بصيص أمل بأن يكون زوجها أسيراً لدى الاحتلال، وكانت تراقب قوائم الأسرى، وتواصلت مع هيئة شؤون الأسرى، ومع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وشاهدت مقاطع فيديو لأسرى محررين يتحدثون عن تعذيب الاحتلال للمعتقلين، وتلقت تأكيدات من هيئات الأسرى بعدم وجود اسمه في المعتقلات والسجون الإسرائيلية.
ظلت أبو غالي لساعات تنتظر، في مجمع ناصر الطبي، وصول سيارة الإسعاف التي تحمل رفات زوجها، ثم أخبروها بنقل الجثمان إلى مستشفى غزة الأوروبي. تقول لـ "العربي الجديد": "ذهب أخي، وأحضر الكفن، وعندما وصل صدمت من هول المشهد، فلم يبق منه سوى العظام، وقد تعرفت إليه من مثبت عظام (بلاتين) موجود بعموده الفقري في مكان عملية جراحية أجريت له، ومن ملابسه التي خرج بها".
وفي محيط مستشفى كمال عدوان بشمال قطاع غزة، ما زالت تتكشف المأساة لأهالي المنطقية العائدين بعد انسحاب الاحتلال من بلدات شمال القطاع، فإلى جانب حجم الدمار، تنبعث رائحة تحلل الجثامين من بين الركام.

انتشال رفات شهداء في رفح.22 يناير 2025 (بشار طالب/فرانس برس)
انتشال رفات شهداء في رفح. 22 يناير 2025 (بشار طالب/فرانس برس)

كان الفلسطيني أحمد شاهداً على مجزرة دموية ارتكبها جيش الاحتلال في 26 ديسمبر الماضي، حين قصف برج "السفير" المقابل لمستشفى كمال عدوان، والذي كان يؤوي 40 فرداً، من بينهم شيوخ ونساء وأطفال، وغالبيتهم من عائلة سمور. يقول لـ "العربي الجديد": "العديد من النازحين دخلوا البرج بعدما أجبروا على مغادرة مستشفى كمال عدوان في أثناء اقتحام الاحتلال له، وبعضهم كانوا ينامون على مداخل البرج المكون من ست طبقات، وبعد استهدافه، تواصلنا مع أشخاص للإبلاغ عن فقدانهم. حجم الدمار كان كبيراً، ولا يمكن انتشال الشهداء نتيجة الحاجة إلى معدات ثقيلة لرفع الأنقاض".
يضيف: "قصف الاحتلال بيتاً لعائلة أبو الطرابيش، وما زالوا تحت الأنقاض، وهؤلاء كانوا يعدون الخبز للأطباء والنازحين والمرضى في مستشفى كمال عدوان، كذلك قصف بيتاً لعائلة السيسي، ورغم انبعاث روائح تحلل الجثامين، إلا أنه لا يمكن بعد انتشالها. أكثر منطقة مليئة بجثامين الشهداء وتنبعث منها الروائح الناجمة عن التحلل هي منطقة الفالوجا، التي تضم جثامين نحو 50 شهيداً تحت الأنقاض تعود لشباب حاولوا النزوح هرباً من الموت فقتلهم جيش الاحتلال".
وحسب مدير مشرحة مستشفى ناصر، الطبيب حمد النجار، تُحضَر الجثث، سواء كانت رفاتاً أو جديدة، فيعمل الطب الشرعي على إثبات هوية الشهداء من خلال تعرّف الأهالي عبر الفحص الظاهري والمعاينة بالعين، وتُصوَّر العظام بعد ذلك من الطب الشرعي والأدلة الجنائية، وتسجَّل العظام باسم الشخص الذي تعرّف أهله إليه بواسطة علامات وأدلة ومقتنيات معينة كان يمتلكها.
ويؤكد النجار لـ "العربي الجديد" عدم القدرة على استخدام الفحوص المخبرية أو إجراء تحاليل DNA بسبب الدمار الذي طاول المستشفيات خلال الحرب وتدمير المختبرات، ما يجعل الفحص الظاهري الطريقة المتبعة في الاستدلال. ومن بين الصعوبات التي يواجهها العاملون، عدم وجود أكفان لبعض الرفات، وعدم توافر مواد التعقيم كي يقوموا بالواجب الشرعي والإنساني تجاه الرفات، ما يعرّضهم ويعرّض الأهالي لانتقال الأمراض.

بدوره، يوضح المتحدث باسم الدفاع المدني في مدينة رفح، أحمد رضوان، لـ "العربي الجديد"، أن "الطواقم تعتمد في البحث على الرؤية البصرية، والبيانات المسجلة مسبقاً من ذوي الشهداء الذين أبلغوا عن مفقودين، أو تجمّع الحيوانات الضالة في مكان، دلالةً على وجود شهداء، أو شهادات السكان. تعمل الطواقم بأدوات بسيطة وبدائية مع غياب معدات الانتشال بسبب التدمير الهائل الذي لحق بالمرافق، وعدم امتلاك آليات ثقيلة لإزالة الركام، أو أدوات خاصة بعمليات الإنقاذ، ما يصعب مهمة البحث عن الرفات. أبلغ الأهالي عن 150 مفقوداً، لكن الأعداد التي انتشلتها طواقم الدفاع المدني أكبر بكثير".
وحول طريقة التعرّف إلى الجثامين، يؤكد افتقار الجهات المختصة إلى المختبرات ومعامل الطب الشرعي ومعامل الفحص الوراثي ومعامل الأدلة الجنائية. مضيفاً: "لا توجد أي تكنولوجيا متطورة للتعرف إلى الأشلاء، وجثامين الشهداء بعضها عبارة عن رفات وهياكل عظمية، لذا يتعرف الأهالي إلى أبنائهم من خلال الملابس أو المقتنيات أو العلامات".

المساهمون