انتحار متكرر في مصر... إنذار قاسٍ لواقع أشدّ قسوة

انتحار متكرر في مصر... إنذار قاسٍ لواقع أشدّ قسوة

21 سبتمبر 2021
يرتبط الانتحار ارتباطاً وثيقاً بالشخص بحدّ ذاته (فايد الجزيري/ Getty)
+ الخط -

 

يرتبط الانتحار ارتباطاً وثيقاً بالشخص بحدّ ذاته. لكنّه قد يتزايد وسط أزمات ضاغطة باختلاف أشكالها، منها الاجتماعية والاقتصادية وكذلك الصحية من قبيل أزمة كورونا الراهنة، وهذا ما يُسجَّل في مصر.

صباح السبت الماضي في الثامن عشر من سبتمبر/ أيلول الجاري، أقدم مواطن مصري في الستّين من عمره على إلقاء نفسه أمام المترو في محطة المعادي جنوبي القاهرة، وقد لقي حتفه في الحال. وقبل هذه الواقعة بنحو ثمانية وأربعين ساعة، انتحرت شابة عشرينية وقد ألقت بنفسها من الطبقة السادسة لأحد المتاجر الكبرى في القاهرة، وقد تبيّن من التحريّات أنّها تعاني من مشكلات وضغوط أسرية. يُذكر أنّها قبل أن تلقي بنفسها من الأعلى، تحدّثت مطوّلاً مع رفيقة لها وأخبرتها بأنّ هذا يومها الأخير في الحياة.

وسبق الواقعة الثانية بنحو ثمان وأربعين ساعة، تهديد الناشط السياسي المصري البارز علاء عبد الفتاح، أمام القاضي ومحاميه، بالانتحار جدياً، فهو وصّى محاميه قائلاً "بلّغوا ليلى سويف (والدته) تأخذ عزائي"، وذلك بسبب ظروف السجن القاسية ويأسه إزاء خروجه منه. وقبل أسابيع من هذا التهديد، انتحرت ربّة منزل تبلغ من العمر 31 عاماً في منطقة بولاق الدكرور بمحافظة الجيزة، علماً أنّها كانت تعاني من حالة اكتئاب، وهي مطلّقة وليس لديها أطفال.

وتأتي تلك الوقائع مختلفة لجهة السياق والظروف والأسباب الدافعة، لكنّها "تحمل رسائل مبطّنة وتمثّل إنذاراً قاسياً وشديد اللهجة بأنّ ثمّة أزمة كبرى في المجتمع"، بحسب ما يقول طبيب متخصص في الأمراض النفسية والعقلية ومحاضر في جامعة الأزهر. ويلفت إلى أنّ "تكرار وتزايد وتيرة حالات الانتحار قد يجرّان أشخاصاً آخرين إلى الانتحار، بعدما كانت الفكرة تراودهم ويترددون في تنفيذها". ويوضح الطبيب الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، أنّ "كثراً من المصابين بالاكتئاب ومن الذين يعانون ضغوطاً نفسية مرضية، قد تراودهم فكرة الانتحار من حين إلى آخر، وأنّ تكرار مثل هذه الوقائع أمامهم يشجّعهم للأسف على الإقدام أو حتى المحاولة. كذلك فإنّ ذلك يزوّدهم بأفكار جديدة بشأن الطرق والوسائل الأكثر حسماً (في وضع حدّ لحياتهم) والأقل إيلاماً". ويتابع الطبيب: "من يفكّر في الانتحار، قد يبدو أنّه يعيش حياة طبيعية وإن بدت عليه مظاهر قلق وتوتّر. لكنّ هذه المظاهر في الغالب لا تشير إلى كلّ ما يدور في رأسه من أفكار بشأن الانتحار ومدى الحسم في ما يتعلق بالفكرة وكيفية تنفيذها والوقت المناسب لذلك والسيناريوهات المتوقعة"، مؤكداً أنّ "دوامة من الأفكار تعصف بمن يفكّر بذلك الوصول إلى محاولة التنفيذ".

الجريمة والعقاب
التحديثات الحية

في واحدة من نظريات الإعلام، يُحكى عن حجم التأثير غير المباشر للمعلومات على المتلقّي. وتفترض هذه النظرية أنّ تكرار معلومة واحدة خمس مرّات على أقلّ تقدير أمام المتلقّي، يجعله يتأثّر بها بشكل أو بآخر، ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى تعامله معها كواقع أو حقيقة مؤكدة. ويشير الطبيب نفسه إلى جانب من هذه النظرية، لافتاً إلى أنّ "تكرار أخبار الانتحار حتى مع مرورها مرور الكرام، له تأثير بالفعل على من تراودهم تلك الأفكار". ويفسّر أنّ "من يفكّر في الانتحار، يمرّ بمراحل عدّة، أولاها الرفض التام للفكرة، ثمّ يشعر بصعوبتها أو يرفضها استناداً إلى وازع ديني، قبل أن يبدأ بالتعامل معها بشيء من الارتياح والاستساغة. ومع تكرار مثل هذه الوقائع يشعر المرء بأنّها فكرة عادية ومكرّرة".

وبالفعل تشير منظمة الصحة العالمية إلى تزايد مقلق في حالات الانتحار، فالعالم ما زال يسجّل حالة انتحار واحدة في كلّ 40 ثانية، وعدد الأشخاص الذين يموتون سنوياً بسبب الانتحار يفوق عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب الإيدز أو الملاريا أو سرطان الثدي أو بسبب الحرب وجرائم القتل. وقد أكّدت المنظمة في إطار حملة نظمتها في خلال سبتمبر الجاري الذي يحلّ في العاشر منه اليوم العالمي لمنع الانتحار، أنّ ثمّة إشارات تحذير لا ينبغي تجاهلها، من بينها كلام وسلوكيات. فالذين ينوون الانتحار، يتحدّثون عن رغبة في الموت، أو يشعرون بذنب أو خجل هائلَين أو بأنّهم يشكّلون عبئاً على الآخرين. كذلك ثمّة إشارات أخرى تتمثّل بالشعور بالفراغ أو اليأس أو بالوقوع في فخّ أو بعدم توفّر سبب للعيش أو بالحزن الشديد أو القلق أو الغضب.

الصورة
مصريون في القاهرة في مصر (فايد الجزيري/ Getty)
تختلف الظروف والأسباب الدافعة للانتحار (فايد الجزيري/ Getty)

وتشدّد المنظمة على أنّه يتعيّن على أيّ شخص يكتشف إشارات التحذير هذه وغيرها، سواء في نفسه أو لدى شخص يعرفه، أن يطلب المساعدة من متخصّص في الرعاية الصحية في أسرع وقت ممكن. وترى المنظمة ضرورة إعطاء الأولوية لبرامج الوقاية من الانتحار، وذلك بعد مرور 18 شهراً من تفشّي فيروس كورونا الجديد، إذ تشير الدراسات إلى أنّ الأزمة الصحية العالمية أدّت إلى تفاقم عوامل الخطر المرتبطة بالسلوكيات الانتحارية، مثل فقدان الوظيفة والصدمات النفسية وسوء المعاملة، إلى جانب اضطرابات الصحة العقلية والعوائق التي تحول دون الحصول على الرعاية الصحية.

وبينما تتباين التقديرات الرسمية وغير الرسمية بشأن إجمالي حالات الانتحار في مصر، تبقى كلّ تلك الوقائع مؤشّراً خطيراً جداً مهما قلّت الأعداد في التقديرات الرسمية عن نظيرتها الصادرة عن منظمات المجتمع المدني. وتشير مصادر غير رسمية إلى أنّ مصر سجّلت 78 حالة انتحار في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021، فيما بلغ عدد الحالات في الأشهر الستّة الأولى 201 حالة، بحسب تقرير للمؤسسة العربية لحقوق الإنسان. وقد استُخدمت ثماني وسائل للانتحار في تلك الفترة، وهي بحسب الأكثر شيوعاً الشنق وتناول أقراص سامة أو كيميائية والانتحار بالقفز في النيل وإلقاء المنتحر نفسه من مكان مرتفع وإطلاق النار على نفسه وإشعال النار في جسده والقفز تحت القطار.

تجدر الإشارة إلى أنّ مصر كانت قد تصدّرت قائمة الدول العربية في معدلات الانتحار مع 3799 شخصاً منتحراً في عام 2016، بحسب منظمة الصحة العالمية. لكنّ السلطات المصرية تحكي في هذا السياق عن "نظرية مؤامرة"، وقد أفادت الإحصائية الرسمية الأخيرة الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2017، أنّ 69 حالة انتحار فقط وقعت في خلال ذلك العام. ورأى الجهاز أنّ "كلّ ما يتردد في هذا الشأن (بخصوص زيادة معدّلات الانتحار) شائعات تستهدف النيل من الاستقرار المجتمعي".

المساهمون