شهدت محافظة إدلب شمال غربي سورية في خلال الأيام الأخيرة ثلاث حوادث انتحار مؤلمة هزّت سكان المحافظة، على أثر إقدام مراهق وشابَين على الانتحار في مدينة إدلب، وذلك في مخيّمَين للنازحين شمالي المدينة. والانتحار بين السوريين تختلف أسبابه، ولعلّ أبرزها الفقر وتردي الوضع المعيشي وعدم القدرة على تأمين قوت يومهم ومستلزمات المعيشة لعائلاتهم، بالتزامن مع الظروف المناخية الصعبة ومتطلبات الشتاء، وضعف الاستجابة الإنسانية شبه المعدومة لقاطني مخيّمات الشمال السوري.
وفي التفاصيل، يوضح الناشط علي حاج سليمان لـ"العربي الجديد" أنّ "الطفل أحمد كلاوي البالغ من العمر 14 عاماً انتحر قبل أسبوع (13 مارس/ آذار الجاري) بعد تناوله قرص الغاز السام في داخل مسكن عائلته وسط مدينة إدلب"، لافتاً إلى أنّ "السبب الذي دفعه إلى ذلك ما زال غامضاً حتى اللحظة".
من جهته، يقول الناشط محمد الضاهر، وهو عضو "المركز الإعلامي العام" في محافظة إدلب، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الشاب نوري محيي الشريف، وهو نازح من بلدة جلاس في ريف إدلب الشرقي ويبلغ من العمر 26 عاماً ومتزوج من امرأتَين ولديه أربعة أطفال، انتحر في السابع من مارس/ آذار الجاري، بعد تناوله قرص الغاز السام في خيمته الواقعة في مخيم الأندلس بالقرب من بلدة زردنا في شمال إدلب، علماً أنّه فاقد للبصر في إحدى عينَيه".
يضيف الضاهر أنّ "شاباً آخر يدعى محمود فطراوي نازح من مدينة كفرنبودة في غرب حماة انتحر بعد نوري بيوم واحد، في داخل مخيم شهداء كفرنبودة في شمال إدلب"، مؤكداً أنّ "سبب انتحار هذَين الشابَين هو الفقر وعدم قدرة الشابَين على تأمين لقمة العيش واحتياجات أطفالهما الصغار، في ظل ظروف النزوح والضغوط النفسية التي يمرّان بها بعد تهجير قاسٍ". يُذكر أنّ أقراص الغاز السام هي أقراص تُستخدم لحفظ المؤونة تُحفَظ في علب معدنية مختومة، تأتي باللون الأسود وتتكوّن من الفوسفين أو من فوسفيد الهيدروجين ويسمى كذلك فوستوكسين. وعندما تتعرّض هذه الأقراص إلى درجة حرارة مناسبة تتحلل ويطلق كلّ واحد منها غازاً شديد السمية يتلف الكبد والقلب والكليتَين، ما يؤدي للموت السريع.
في هذا الإطار، يقول الطبيب علاء العلي وهو المسؤول الميداني في الشمال السوري لبرنامج الصحة النفسية في "اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية" (UOSSM) لـ"العربي الجديد" إنّه "تمّ رصد ومتابعة 45 حالة نفسية موزعة في أرياف حلب وإدلب شمال غربي سورية منذ مطلع العام الجاري. وقد قُدّر لدى عدد منهم خطر وشيك على خلفية محاولات انتحار وأفكار إيذاء، ولدى آخرين خطر غير وشيك على خلفية أفكار إيذاء من دون محاولات انتحار". يضيف العلي أنّه "في وحدة الاستشفاء التابعة للاتحاد في منطقة سرمدا في شمال إدلب، أطلقنا الخط الساخن أونلاين، وتمّ التواصل مع 25 حالة بعد رصدها من قبل فرقنا، منها 12 حالة قُدّر لديها خطر وشيك".
وعن دوافع الانتحار، يوضح العلي أنّها "تأتي في تصنيفات عدّة اجتماعية واقتصادية وبالدرجة الأولى نفسية. فالحالات التي راجعتنا بمعظمها كانت تعاني اضطراباً نفسياً حاداً". ويحكي عن الأسباب المباشرة من قبيل "وفاة شخص مقرّب، أو خسارة مالية، أو ضغوط بسبب النزوح والتهجير والفقر والبطالة، أو الانفصال الزوجي (الطلاق)، أو خلافات أسرية. وبالنسبة إلى من هم في الثامنة عشرة من عمرهم، فحالاتهم بمعظمها تأتي كردود فعل لمشكلات عاطفية". ويشرح العلي أنّ "فريق الصحة النفسية اتّبع إجراءَين، أوّلهما إعداد خطة الأمن والسلامة التي تتضمن جلسات دعم وتثقيف نفسيَّين وتعليم استراتيجيات وحل المشكلات ومتابعة هذه الحالات على أكمل وجه. أمّا الإجراء الثاني الذي يستهدف المعرّضين إلى خطر وشيك، فيُترجم في تحويل المعنيين إلى طبيب متخصص في الأمراض النفسية فيُتابَع دوائياً".
من جهته، يقول مدير فريق "منسقو استجابة سورية" محمد حلاج لـ"العربي الجديد" إنّ "حادثة الانتحار الأخيرة في مدينة إدلب (الخاصة بالطفل البالغ من العمر 14 عاماً) هي الخامسة في خلال مارس/ آذار الجاري. فأولى عمليات الانتحار في اليوم الأول من الشهر الجاري أقدمت عليها امرأة شابة تبلغ من العمر 22 عاماً وهي أمّ لثلاثة أطفال، من خلال إطلاق النار على نفسها في داخل تجمع مخيمات دير حسان في شمال إدلب على الحدود السورية التركية. وأتى ذلك نتيجة خلافات مع أفراد عائلتها، ليُسجَّل في اليوم التالي انتحار رجل نازح في مدينة الباب في شرق حلب، من خلال إضرام النيران بنفسه لأسباب ما زالت مجهولة حتى اللحظة".
في السياق نفسه، يتحدّث حلاج عن "طفل يبلغ من العمر ستّ سنوات حاول في خلال العام الجاري الانتحار عبر رمي نفسه من أعلى مبنى مدرسته في مدينة عفرين في شمال حلب، نتيجة خلاف بينه وبين أحد زملائه. أتى ذلك بعدما أقدم على ضرب زميله بشكل مبرح، الأمر الذي دفع مدير المدرسة إلى صفعه على وجهه أمام زملائه، فحاول بالتالي الانتحار"، لافتاً إلى أنّ "ثمّة مشكلة نفسية لدى هذا الطفل".
ويوضح حلاج أنّ الفرق الميدانية التابعة لفريق "منسقو استجابة سورية" الذي يديره وثّقت في خلال العام الماضي 19 حالة انتحار في المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة السورية في شمال غرب سورية، عدد منها في مخيمات النزوح، ومن بين الضحايا أربع نساء وطفلان. ويذكر من بين أسباب الانتحار "العنف الأسري، والحالة المادية السيئة التي تواجه الأهالي، وحالات الطلاق المرتبطة بالإنجاب، بالإضافة إلى غياب الرعاية. كذلك تأتي الأمراض النفسية المترافقة مع هواجس انتحارية، والتي يحتاج المصابون فيها إلى علاج ومتابعة".