الوسواس القهري... كورونا يفاقم حدّة الاضطراب النفسي

الوسواس القهري... كورونا يفاقم حدّة الاضطراب النفسي

23 ابريل 2022
الأزمة الوبائية راحت تغذّي الوسواس القهري منذ الصغر (رضوان تشيليك/ Getty)
+ الخط -

منذ ظهور فيروس كورونا الجديد قبل أكثر من عامَين وتحوّله إلى جائحة، صار يُحكى عن تأثيره على الصحة النفسية للبشر أجمعين وليس للمصابين فحسب. فالجميع تضرّر بشكل أو بآخر في هذا الإطار، لا سيّما وسط فترات الإغلاق التي عزلت الناس بعضهم عن بعض، بالإضافة إلى كلّ "الترهيب" المرتبط بمخاطر الإصابة بكوفيد-19 والتوجيهات الخاصة بالتعقيم والالتزام بالأقنعة الواقية والتباعد وغير ذلك. وإذا كانت الأزمة الوبائية قد طاولت الجميع، لا سيّما هؤلاء الذين لم يعانوا من قبل من أيّ مشكلات على صعيد الصحة النفسية، إذاً يمكن تخيّل الوضع بالنسبة إلى المصابين باضطرابات نفسية وعقلية مختلفة، خصوصاً اضطراب الوسواس القهري.
لا يخفي كثير من المصابين بذلك الاضطراب أنّهم واجهوا ظروفاً صعبة جداً في خلال أزمة كورونا الممتدّة، إذ تفاقمت حالاتهم مع ازدياد الأعراض سوءاً بشكل واضح، من خلال محاولتهم تجنّب العدوى. وفي الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، ارتفع عدد الأشخاص الذين راحوا يطلبون رأي ونصائح متخصصين في علم النفس، بحسب ما جاء في تقرير أخير لشبكة "سي أن أن" الأميركية.
ويستعرض هذا التقرير حالة مالينا دل، التي تأثّرت بشكل كبير في الأزمة الوبائية، وتخبر كيف جلست في سيارتها في إحدى محطات الوقود لمدّة 45 دقيقة وهي تبكي، لأنّها لم تستطع لمس خرطوم البنزين بهدف ملء خزّانها، بسبب خوفها من انتقال الفيروس إليها. هذه واحدة من النوبات التي أصابتها، في حين أنّ أسلوب عيشها تضرّر كثيراً، فبعد غسل البقالة امتنعت كلياً عن الأكل خشية إصابتها بكوفيد-19 أو نقل العدوى إلى آخرين. بالتالي، يمثّل التعايش مع فيروس كورونا الجديد تحديات كبرى بالنسبة إلى مالينا دل كما لآخرين.
 
ما هو الوسواس القهري؟
تشرح المجموعة الطبية البحثية الأميركية "مايو كلينك" أنّ اضطراب الوسواس القهري أو ما يُعرف اختصاراً باللغة الإنكليزية بـ"أو سي دي" يتّسم بنمط من الأفكار والمخاوف غير المرغوب فيها تُسمّى وساوس، تدفع الشخص المعني إلى القيام بسلوكيات متكررة تُسمّى سلوكيات قهرية. وتُعيق هذه الوساوس والسلوكيات القهرية الأنشطة اليومية وتتسبّب في ضيق شديد.
تضيف "مايو كلينك" أنّ في إمكان المصاب أن يحاول تجاهل وساوسه أو وقفها، لكنّ ذلك لن يؤدّي إلا إلى زيادة شعوره بالضيق والقلق. فيشعر في النهاية بأنّه مدفوع صوب السلوكيات القهرية في محاولة لتخفيف توتّره. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتجاهل هذه الأفكار أو الدوافع المزعجة أو التخلّص منها، فإنّه يستمرّ في التفكير فيها، الأمر الذي يؤدّي إلى مزيد من "السلوك الطقوسي"، أي الحلقة المفرغة لاضطراب الوسواس القهري.
وتتابع "مايو كلينك" أنّ اضطراب الوسواس القهري يتمحور عادة حول موضوعات محدّدة، على سبيل المثال الخوف المفرط من التعرّض للتلوّث بسبب الجراثيم. وللتخفيف من تلك المخاوف، قد يعمد المرء إلى غسل يدَيه بشكل قهري حتى تُصابا بتقرّحات وتشقّقات.
ولعلّ هذا المثال الذي تورده المجموعة الطبية البحثية هو ما يفسّر الضرر الأكبر الذي طاول وما زال الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري في خلال أزمة كورونا المستمرة منذ أواخر عام 2019.
بدوره، يعرّف المعهد الوطني الأميركي للصحة النفسية اضطراب الوسواس القهري بأنّه تتالي أفكار أو سلوكيات بطريقة لا تمكّن الشخص المعني من السيطرة عليها وتتسبّب بقلق له. وهي تأتي متكررة في مختلف مناحي حياة الفرد، من قبيل العمل والدراسة والعلاقات الشخصية.

تقول المتخصصة اللبنانية في علم النفس سحر بلوط، لـ"العربي الجديد"، إنّ "اضطراب الوسواس القهري يُعَدّ من الاضطرابات التي تسيطر على واحد أو اثنين في المائة من مجموع سكان العالم، وهو ما يعني أنّ هذا الاضطراب شائع بشكل لافت". تضيف بلوط أنّه "استناداً إلى الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية في نسخته الخامسة (DSM-5)، قسّمت الجمعية الأميركية للطب النفسي الاضطراب إلى نوعَين؛ الأوّل يشمل الوسواس الفكري الذي يرتبط بالرجال بشكل أكبر، والوسواس العملي ويرتبط أكثر بالنساء. والفكري بحسب ما تشير تسميته، هو وسواس الأفكار، فيما الوسواس العملي يتعلّق بتكرار أعمال معيّنة مثل التنظيف. ويُضاف إلى هذا النوع، ما يُعرَف بالاكتناز".
وبحسب تعريف "مايو كلينك"، فإنّ اضطراب الاكتناز القهري أو التخزين القهري يتلخّص بصعوبة دائمة في التخلّص من المقتنيات أو التخلّي عنها، فثمّة شعور بحاجة مستمرة إلى الاحتفاظ بها. ويُعاني الشخص المصاب بهذا الاضطراب من الشعور بالضيق بمجرّد التفكير في التخلّص من الأغراض، فيؤدي ذلك إلى تراكمها بشكل مفرط، بغضّ النظر عن قيمتها الفعلية.
وتوضح بلوط أنّ "الجمعية الأميركية للطب النفسي بيّنت في دليلها التشخيصي والإحصائي أنّ كلّ شخص مصاب بالوسواس القهري يختبر الاضطراب بطريقة خاصة، وإن تشابهت بعض الأعراض. قد تكون الأعراض المحدّدة متشابهة بين بعض الأشخاص، ومع ذلك يمكن أن تختلف الأعراض بين شخص وآخر، لذا يأتي التشخيص وفق معايير محدّدة".

تدابير وقائية في خلال التسوق في زمن كورونا (Getty)
تسوّق "محمّي" في زمن الوباء (Getty)

حالات متفاقمة نتيجة كورونا
بحسب ما يتّفق خبراء متخصصون في علم النفس، فإنّ أزمة كورونا دفعت في اتّجاه تفاقم حالات أشخاص كثيرين مصابين باضطراب الوسواس القهري، في حين تسبّبت أيضاً في إصابة آخرين بهذا الاضطراب.
وفي مثال على تفاقم الحالات، يروي الكاتب ماثيو كانتور، في صحيفة "ذي غارديان" البريطانية بنسختها الأميركية الصادرة في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، تجربته الخاصة في هذا المجال. وبحسب تقرير كانتور، فقد فاقم الفيروس وعملية تطويقه معاناته مع هذا الاضطراب. على سبيل المثال، قوّضت إجراءات التعقيم، وهي من التدابير الوقائية الخاصة بمكافحة الفيروس، كلّ جهوده السابقة للسيطرة على وسواسه القهري، لا بل هي فاقمت حدّة اضطرابه، بحسب ما يقرّ، ويشرح: "لقد هزّ فيروس كورونا الجديد الأسس التي بنيتها. فجأة، لم تعد التهديدات الغامضة للفيروسات خيالية، بل صارت حقيقة. وبدأت الأسئلة تدور في رأسي، ماذا لو التقطت الفيروس؟ ماذا لو أصيب والداي؟ ماذا لو كانت القطّة مصابة به؟"، مؤكداً أنّ "الوباء خلط من جديد الأمور اللاعقلانية وتلك العقلانية".

تنظيف وتعقيم اليدين في زمن كورونا (Getty)
قد يعمد المرء إلى غسل يدَيه بشكل قهري حتى تُصابا بتقرّحات وتشقّقات (Getty)

على الرغم من عدم توفّر دراسات حول المصابين باضطراب الوسواس القهري وأحوالهم وسط أزمة كورونا الوبائية، فإنّ بحثاً منشوراً على منصّة "فرونتيرز" العلمية المفتوحة ومقرّها سويسرا، رصد تأثيرات الوباء على اضطراب الوسواس القهري في الصين، وتحديداً في مدينة ووهان، وسط البلاد، حيث ظهر الوباء للمرّة الأولى في أواخر عام 2019. ووفقاً للدراسة، فقد تسبّب فيروس كورونا الجديد في أضرار كبيرة على الصحة الجسدية وأيضاً على الصحة النفسية للسكان، من بينها انتشار الوسواس القهري بينهم خلال الحجر الصحي الأوّل الكبير.
وتفصّل الدراسة المنشورة على "فرونتيرز" أنّه بعد ثلاثة أشهر من رفع الحجر الصحي في ووهان، بلغت نسبة الوسواس القهري لدى الفئة التي خضعت للدراسة نحو 17.93 في المائة، علماً أنّ نحو 89 في المائة من هؤلاء كانوا يعانون أصلاً من الاضطراب، لتخلص الدراسة إلى أنّ الوباء زاد من معدّلات الاضطراب.

تنظيف وتعقيم في زمن كورونا (Getty)
لا بدّ من غسل وتعقيم كلّ شيء تفادياً للعدوى (Getty)

وتعليقاً على تلك الخلاصة وعلى زيادة حالات الاضطراب وسط الأزمة الوبائية عموماً، نقلت شبكة "سي أن أن" الأميركية عن المتخصص العيادي في علم النفس برودريك سوير قوله إنّ "الضغط النفسي والإغلاقات وعدم اليقين بشأن الوباء قد شكّلت تحديات للأشخاص الذين شُخّص لديهم اضطراب الوسواس القهري كما لدى الذين لديهم ميول تذهب في اتّجاه هذا الاضطراب". يضيف سوير أنّه على الرغم من أنّ العالم ينتقل إلى ما يشبه الحياة الطبيعية، فإنّ الناس ما زالوا يواجهون تحديات، لا سيّما الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري، ويرى أنّ رفع تدابير الإغلاق لم ينعكس إيجاباً على هؤلاء، لافتاً إلى إمكانية أن يمثّل ذلك مصدر إزعاج لهم.

ووسط ذلك، تشدّد بلوط على ضرورة لجوء المصابين باضطراب الوسواس القهري إلى العلاج، لافتة إلى أنّ "الأمر يتطلّب قبل كلّ شيء البحث عن أسباب هذا الاضطراب. فثمّة عوامل عديدة تؤدّي إلى الإصابة به، منها ما يتعلّق بخلل في وظائف الدماغ أو بعوامل وراثية أو حتى اجتماعية وغيرها. واستناداً إلى هذه العوامل، تُحدّد العلاجات اللازمة، ومن بينها العلاج السلوكي - المعرفي والعلاج بالدراما" على سبيل المثال.

المساهمون