استمع إلى الملخص
- تعاني العائلات من فقدان أحبائها أثناء محاولاتهم لجلب المواد الغذائية، مثل أم محمد النواجحة التي فقدت زوجها، مما يزيد من معاناتهم في ظل ارتفاع الأسعار ونقص السيولة.
- خلفت الحرب آلاف المفقودين، وتعيش العائلات في قلق دائم، مثل أم محمد أبو اللبن التي تبحث عن ابنها فيصل بين جثامين الشهداء.
دفعت الظروف المعيشية الصعبة ونقص المواد الغذائية واسع النطاق إلى انتشار الجوع في قطاع غزة المحاصر، على نحوٍ أقسى من مرات سابقة من الحصار عاشها القطاع خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل.
يخاطر الكثير من أهالي قطاع غزة بحياتهم من أجل إطعام أسرهم، أو الحصول على وجبة تُنهي جوع أطفالهم في ظلّ توسع التوغلات البرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي. وترك العشرات عائلاتهم خلال الأشهر الماضية من أجل جلب الطحين (الدقيق) أو بعض الطعام، ليعودوا محمولين على الأكتاف، أو داخل أكفان، ليصبح هدف الحصول على لقيمات قليلة تبقي الأطفال والمسنين على قيد الحياة مغمساً بدماء الشهداء.
ومع استئناف الاحتلال عدوانه على غزة، واستمرار إغلاق معابر القطاع، نفدت معظم الاحتياجات الأساسية والمواد الغذائية من المنازل، ثم من الأسواق، وأدى منع إدخال المساعدات إلى شحّ مادة الطحين وتفشّي الجوع، وتعالت أصوات أنّات البطون الخاوية، وزادت طوابير المصطفين على أبواب تكايا الطعام الخيرية.
لم تترك الظروف القاسية أمام نضال درويش حجاج (35 سنة) سوى العودة إلى منزله الواقع في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، لإحضار الطحين لأطفاله، إذ لم يستطع تحمل استمرار حالة الجوع التي تعيشها عائلته، حتى لو كان في الأمر مخاطرة بحياته.
يعيش حجاج مع والديه وأطفاله الأربعة في خيمة صغيرة منذ نزوحهم مثل معظم أهالي حي الشجاعية إلى غربي مدينة غزة، وفي 19 إبريل/ نيسان الماضي، قرّر الذهاب مع ابن عمه محمود ياسر حجاج (32 سنة) لإحضار الطحين. يحكي والده المُكنى بأبي رائد لـ"العربي الجديد": "كانت الساعة الحادية عشرة صباحاً عندما أخبرني نضال عن نيته العودة إلى المنزل مع محمود، وقد خشيت عليهما، وطلبت منهما عدم الذهاب، وأخبراني بعدها أنهما تراجعا عن الذهاب إلى المنزل".
يضيف الأب الذي كان يجلس بجانب أحفاده أمام الخيمة: "تفاجأت باتصال يبلغني باستشهاده، وأخبرني شهود عيان من العائلات التي ظلت محاصرة في المنطقة، أنهم استطاعوا انتشال جثمانه، وأنه تعرض لقصف من طائرة مسيّرة بعد أن تمكن من الوصول إلى المنزل مع ابن عمه، وجلب الطحين، لكنهما استشهدا معاً. أدت الحرب إلى تعطل نضال عن العمل، ما جعلنا لا نملك دخلاً لتوفير الطعام، ومع رحيله زادت المسؤولية عليَّ كرجل مسن. أصبحت مسؤولاً عن رعاية وتربية وإطعام هؤلاء الأطفال، وأدعو الله أن يعينني على ذلك، لأن الظروف صعبة، وتكايا الطعام لا تفتح أبوابها كثيراً، وإن توفر الطعام، فيكون شوربة عدس، وهي لا تسد جوع الأطفال".
نفدت معظم المواد الغذائية الأساسية من منازل وأسواق قطاع غزة
إلى جانبه تجلس الحاجة "أم رائد"، تحمل طفلة نجلها وتين (سنتان)، وهي تستذكر تفاصيل ذلك اليوم الدامي بينما تمرّر يدها على رأس حفيدتها، تقول: "افتقدت نضال، فسألت زوجته عنه، وبدورها أخبرتني أنه عاد إلى المنزل، فبقيت أعصابي مشدودة، حتى وصلنا الخبر. عندما انتشلوا جثمانه كان يحمل بقايا طعام وآثار طحين في يده، وكان غارقاً في دمائه".
وتصف نجلها الشهيد بأنه كان حنوناً، ويحب مساعدة الآخرين، وتضيف: "في إحدى المرات، وأثناء إحضاره الطعام لأولاده، وجد عائلة في حاجة ماسة للطعام، فأعطى تلك العائلة ما معه من طعام، ونام هو وأطفاله جائعين. عاش الأشهر الأخيرة في تشرد ونزوح بين الخيام وفوق الأنقاض". يمتزج صوتها بالبكاء وهي تضم حفيدتها، وتتابع: "هذه الطفلة تقطع قلبي منذ رحيل والدها، وتجعلني أبكي كلما ترى صورته، إذ تسأل ببراءة عنه، وكثيراً ما تناديه. هذا من أقسى ما يمرّ علينا، رغم أننا نعيش في حالة جوع مع غياب مستلزمات الحياة كافة. فقدت ابني من أجل لقمة عيش".
وبالكاد التقط أهالي غزة أنفاسهم لمدة ستين يوماً خلال اتفاق وقف إطلاق النار بعد فترة جوع طويلة امتدت لأكثر من أربعة أشهر، من سبتمبر/ أيلول إلى ديسمبر/ كانون الأول 2024، ليعود الجوع أشد قسوة نتيجة تشديد الحصار وإغلاق المعابر.
عاشت أم محمد النواجحة فصولاً قاسية بين المجاعتَين، فقدت خلالها زوجها شريف النواجحة (49 سنة) أثناء محاولته إحضار الطحين من منزله الواقع في حي الجنينة شرقي مدينة رفح جنوبي قطاع غزة المحاصر، في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وتروي لـ"العربي الجديد": "لم نكن يومها نجد رغيف خبز واحد، وكانت حالتنا في غاية السوء. مرّت علينا أيامٌ صعبة، فقرر المخاطرة، وغادر إلى المنزل في الساعة الثامنة صباحاً، وشجعني على الموافقة على ذهابه، أنه ذهب ثلاث مرات سابقة، وأحضر ملابس شتوية وأغطية لأطفاله الخمسة، وكنّا يومها نعاني من البرد، كما أحضر بعض الطعام في المرتين الأخريين. في هذه المرة، بقيت أنتظره حتى حل المساء، ولم يكن يرد على اتصالاتي الهاتفية".
لم يدم الانتظار يوماً واحداً، بل ظلت النواجحة تبحث عن زوجها المفقود لمدة شهرين، تسأل عنه في المستشفيات، وفي قوائم الأسرى، وتعيش محاصرة بين القلق والخوف مع تعلقها بأمل أن يكون على قيد الحياة، إلى أن جرى إعلان وقف إطلاق النار، وبدأ الناس يرجعون إلى رفح في 19 يناير/ كانون الثاني 2025. تقول: "يومها اتصل بي إخوته أثناء تفقد جثامين متحللة، وحددت لهم لون الملابس التي كان يرتديها، كما كان معه رخصة القيادة، وقد تعرفوا على جثمانه المتحلل، ودفنوه".
بعد استشهاد زوجها زاد وضع النواجحة وأطفالها الخمسة سوءاً، تضيف والحزن يملأ صوتها: "لا نملك الطحين منذ شهرين، وأعيش مع أطفالي في أحد مراكز الإيواء بخانيونس، والصراع اليومي هو ماذا أطعمهم؟ خنقتنا الحياة ولم يعد باستطاعتي إطعامهم بعد نفاد كل شيء، فسعر رطل الطحين يبلغ 150 شيقلاً، ولا توجد سيولة نقدية في القطاع، كما أن البائعين أوقفوا التعامل بالتداول الإلكتروني (محفظة)، وهذا ما صعّب الأمر علينا. ذهب زوجي ضحية لقمة عيش، وما زلت أعيش في صدمة كبيرة منذ استشهاده، وبيتي تعرض للهدم، ونعيش في مجاعة، ولجأت إلى بدائل صعبة، من بينها استبدال الطحين بالمعكرونة، التي أقوم بغليها ثم تجفيفها وطحنها".
وخلفت الحرب على غزة أكثر من عشرة آلاف مفقود، من بينهم مئات فقدوا أثناء العودة إلى منازلهم، سواء في جنوبي القطاع أو شماله، لإحضار المستلزمات الضرورية لعائلاتهم، أو لجلب الطعام، وجرى استهدافهم خلال ذلك، ليضاف وجع الفقد إلى وجع التجويع والحرمان الذي تعاني منه آلاف العائلات.
وفي رحلة البحث عن الخبز، فقدت المئات من العائلات آثار أبنائها، من بين هؤلاء أم محمد أبو اللبن، التي فقدت آثار ابنها فيصل أبو سمرة (18 سنة) أثناء ذهابه لإحضار الطحين من دوار الكويت، في مارس/ آذار 2024، ولم تصل حتى الآن إلى أي معلومة حول مصيره.
تحكي أبو اللبن لـ "العربي الجديد": "كنا نعيش في مجاعة شديدة بمدينة غزة، وكان ذلك قبل حلول شهر رمضان، ولم يكن لدينا أي طعام، فخرج لإحضار الطحين، لكنه لم يعد أبداً. نشرت يومها على مواقع التواصل الاجتماعي مناشدة حول فقدان الاتصال به، وانتظرت حتى صباح اليوم التالي، ومع عدم عودته، أبلغت الصليب الأحمر، وواصلت الذهاب إلى مستشفيات بمدينة غزة، وشمالي القطاع بصورة متكرّرة، من دون الوصول إلى أي معلومة عنه".
تضيف: "في مرتين قبل المرة الأخيرة، ذهب فيصل لإحضار الطحين من نفس المكان، لكنّه عاد خالي الوفاض، ومكسور الخاطر لعدم تمكنه من جلبه نتيجة تدافع الناس الكبير. في المرتين كان يعيش حزناً شديداً لأنه كان يقطع مسافة طويلة مشياً على قدميه من منزلنا الواقع على أطراف حي الشجاعية. لكنه كان يعود، في المرة الأخيرة لم يعد. عشت رحلة قاسية خلال البحث عنه بين جثامين الشهداء الذين يجري انتشالهم من أماكن مختلفة، ويحضرون إلى المستشفيات، وتفقدت بقايا العظام والهياكل عشرات المرات".
وتوضح: "أصعب شيء أن تعيش في متاهة، ولا تعرف مصير نجلك. لا زلت أتعلّق بأمل أنه سيعود حيّاً، وفي كل مرة تحضر طواقم الدفاع المدني شهداء جرى انتشالهم، أذهب وأتفقد الجثامين ربما أجد ابني. فيصل أصغر أبنائي، وكان لديه أحلام كبيرة، وكان يضع في غرفته ملصقات وقصاصات ورقية تحفيزية، كتب فيها أحلامه، وبعض عبارات التشجيع على المثابرة والنجاح والتفوق في التوجيهي".