المنهبة اللبنانية الكبرى.. حين أفلست مليشيات الحرب والمافيا الاقتصاد

12 ابريل 2025
انهارت قيمة الليرة اللبنانية خلال الحرب، بيروت، أغسطس 1987 (نبيل إسماعيل/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد الحرب الأهلية اللبنانية، تحول زعماء الميليشيات إلى قادة سياسيين واقتصاديين تحت الإدارة السورية، مما أدى إلى فساد ونهب البلاد بالتعاون مع "مافيا المصارف"، حيث أصبح رياض سلامة رمزًا للفساد المالي.
- اتفاق الطائف أنهى الحرب الأهلية لكنه رسخ الطائفية السياسية، مما أدى إلى فساد وسوء إدارة، وبدأت مرحلة "إعادة الإعمار" التي شهدت استيلاء شركة سوليدر على أملاك الناس وارتفاع الدين العام.
- مع استمرار الفساد، ارتفع الدين العام بشكل كبير، وانهار سعر صرف الليرة اللبنانية والمصارف، ولم توضع خطة إنقاذ للاقتصاد، بينما الإصلاحات غائبة والسارقون خارج السجون.

بعد الحرب الأهلية اللبنانية، خلع زعماء المليشيات ثياب العسكر، وارتدوا ربطات العنق، وتحت الإدارة السورية وحلفائها، قادوا البلد مع السياسات الحريرية إلى الإفلاس.

إذ لم ينته دور المليشيات اللبنانية بارتكاب حرب أهلية مدمرة استمرت 15 عاماً. وبدلاً من زج قيادييها في السجون، فقد أصبحوا زعماء فترة ما بعد الحرب، وتسلموا المناصب الاقتصادية لينهبوا البلد بالتعاون مع ما يسمونه في لبنان "مافيا المصارف" وعرّابها الحاكم السابق لمصرف لبنان، الذي يحاكم في لبنان والمطلوب قضائياً في عدد كبير من البلدان الأوروبية، رياض سلامة.

أدت الحرب الأهلية إلى دمار كبير غطى كل التراب الوطني، وفقد البلد أكثر من نصف الناتج المحلي وتراجعت أدوار الوساطة التي كان يلعبها عربياً ودولياً بسبب أعمال الاقتتال، فيما صدمة أسعار النفط فتحت المجال أمام دول الخليج للبحث عن بدائل أخرى عن لبنان، وبدلاً من اعتماده لتصدير السلع والخدمات، أصبح مركزاً لتصدير الموارد البشرية. 

ويستذكر الخبير الاقتصادي كمال حمدان، كيف تضافرت كل هذه العوامل مع فقدان الأمل بأن يكون لبنان بلداً شبه صناعي. فقد حقق لبنان بين عامي 1964 و1974 أعلى معدل نمو صناعي في تاريخه، مرتفعاً 3 مرات أعلى من معدل نمو الناتج المحلي. كذا أدت الحرب إلى تعريض ما بين 35% إلى 40% من سكان البلد إلى الهجرة الداخلية أو الخارجية.

ومع هبوط الناتج وتراجع دور الوساطة والتحركات السكانية ورعب الحرب، نشأت تحولات اقتصادية مصاحبة، من انهيار العملة، وارتفاع البطالة وترييف المدن وبروز مراكز إنماء ثانوية.

مرحلة ما بعد الحرب

في العام 1989، تم توقيع اتفاق الطائف الذي انتهت بموجبه الحرب الأهلية، برعاية عربية ودولية وغطاء أميركي. وفيما كان يجب أن يؤسس الاتفاق إلى محاسبة المجرمين وإلغاء الطائفية السياسية التي أسست للحرب، رسخ الطائف توزيع السلطة بين زعماء الميليشيات عبر توسيع ميزان القوى من المارونية السياسية لتشمل السنة والشيعة، من خلال آليات مختلفة قائمة على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في توزيع المناصب. ولم يحدد الاتفاق أي إطار زمني لإلغاء الطائفية السياسية التي أناط بالبرلمان ميلشيوي الأسس أن يرسم مسارها، وبزعماء الطوائف ان يتوافقوا عليها.

كذا، جاءت إعادة تشكيل المناصب تحت إدارة النظام السوري، الذي بقي متحكماً بكل تفاصيل البلد حتى العام 2005، من تفريخ أصغر نقابة فيه لضرب الحركة العمالية، إلى تعيين أعلى منصب أي رئيس الجمهورية. وكان القرار بأن يكون الاقتصاد بيد رفيق الحريري والأمن والسياسة الخارجية لدى حلفاء سورية.

إذ تسلم الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة بعد ما أسماه الباحث فواز طرابلسي في كتابه "الطبقات الإجتماعية في لبنان: إثبات وجود" بـ"الانقلاب المالي". فجأة، انهارت قيمة صرف العملة اللبنانية من 1150 للدولار الى 2830 ليرة، بعد موجة من المضاربات أدت إلى تحرك النقابات العمالية التي كانت تدار عبر الأجهزة الامنية. فاستقال الرئيس عمر كرامي وكلف الرئيس الهرواي رفيق الحريري تشكيل الحكومة.

وبدأت هنا مرحلة "إعادة الإعمار"، ونشأت شركة سوليدر التي استولت على أملاك الناس وحقوقها، وتقاسمت الميليشيات مليارات الدولارات للمشاريع التنموية عبر مجلس الإنماء والإعمار. 

هكذا انقلب اتفاق الطائف، من خطة لنهوض لبنان إلى "زواج فج" بين الميليشيات وما تبقى من البرجوازية اللبنانية التي التحقت بأطراف السلطة واشركتها في المنافع لحماية مصالحها واستثمرت بها لبناء سياسات تخدمها، وفق تفسير حمدان لـ "العربي الجديد". 

فيما رأى الخبير الاقتصادي توفيق كسبار أنه على الرغم من أن اتفاق الطائف كان ممتازاً في نصه، إلا أن رؤساء الميليشيات دخلوا إلى النظام السياسي بعد الحرب، وبدأوا بتسمية المسؤولين في المؤسسات والإدارات والوزارات وكل المرافق العامة، ليصبح هؤلاء يعملون لمصلحة زعماء الطوائف لا لصالح المصلحة العامة، ما خلق فساد وسوء إدارة فاضحة متفلتة من الرقابة والمحاسبة، إذ أن اتهام مدير بقضية أصبح يوازي اتهام زعيم الطائفة التي عينته، وفريق سياسي مسيطر في السلطة. ووفق ما يقول كسبار لـ "العربي الجديد" إن هذا الترابط كان أسوأ تركة للحرب على اقتصاد لبنان.

فوائد عالية وتثبيت الليرة

وفي ظل تقاسم السلطة وبدء عملية إعادة الإعمار، بدء تنامي النمط الريعي، بداية من تثبيت سعر العملة عند 1507 ليرات أمام الدولار، وتقديم معدلات فائدة عالية على الودائع، تحت مبرر جزء العملة الصعبة إلى البلد. فيما تصاعدت سياسة التحرير الاقتصادي في عهد الحريري من خلال خفض الحماية الجمركية الصناعية من 18% إلى 5%، وإلغاء تصاعدية النظام الضريبي، وتعزيز الاستهلاك الممول بالتحويلات الخارجية والقروض والديون الداخلية ليتجاوز بنموه، وفق حمدان، نمو الناتج المحلي. 

وفيما كان يمكن لسياسة تثبيت الليرة في العام 1993 أن تكون آلية لتخفيف العجز وتعزيز الاستثمار العام وتنمية الاقتصاد، إلا أن زعماء الطوائف ضاعفوا النفقات العامة بموازنات تفتقد إلى الشمولية وتخالف القانون والدستور عبر إقرارها من دون قطع للحسابات، ما يعني عقد صفقات وصرف مليارات الدولارات على مر السنوات من دون أي رقابة ولا محاسبة، ليتحول المال العام إلى خزنة مثقوبة تزيد من ثروات الزعماء وتفاقم أزمة الاقتصاد.

موقف
التحديثات الحية

ومع ظهور شركة سوليدر، وإنفاق مليارات الدولارات لإعادة الإعمار خلال حقبة ترأسها الحريري واستفاد من صفقاتها ما تبقى من زعماء الطوائف، ارتفع الدين العام والعجز إلى مستويات كدت تصبح خارج السيطرة.

هنا ظهرت في العام 1997 ما أسماه حمدان "بدعة" الحريري وعدد من المصرفيين وتشجيع زعماء الميليشيات بإصدار سندات خزينة بالدولار من السوق المحلي. حيث تم رفع معدل الفائدة على سندات بالليرة لتصل إلى 40%، فيما تم إصدار سندات خزينة بالدولار وفق معدلات الفائدة العالمية، ما يخفض من نسبة العجز والدين، وجصلت هذه البدعة بعلم السلطات النقدية الأميركية وبسماح من صندوق النقد والبنك الدوليين.

ولجأت الحكومة إلى المصارف لاستدانة الأموال عبر فوائد ضخمة، وبدأت أرباح المصارف تتصاعد مع نفوذها، فيما شهد الدين العام ارتفاعات صاروخية من 14 مليار دولار في نهاية  1998إلى 38 مليار دولار في العام 2005.

ويعطي  الفضل شلق، رئيس مجلس الإنماء والإعمار خلال فترة من حكم الحريري، مثالاً مفجعاً في مقال نشره العام 2006، فاتّهم المصارف بتحقيق 26 مليار دولار من الفوائد المرتفعة على الدين العام من أصل دين عام يبلغ 38 مليار دولار.

ويستذكر كل من كسبار وحمدان كيف حولت الميليشيات القطاع العام إلى آلية لخلق الولاء الحزبي - المذهبي. تقول الأبحاث، وفق حمدان، إن القطاع العام كان يضم 75 ألف موظف في السبعينات، ليترفع العدد تدريجياً وصولاً إلى 300 ألف موظف غالبيتهم معينين سياسياً، إنتاجيتهم تقل عن ثلث الإنتاجية ما قبل الحرب.

ويستحضر كسبار دراسات تؤكد وجود مدارس في الجنوب مثلاً، عدد الأساتذة فيها يفوق عدد الطلاب، وينسحب التعيين الحزبي ذاته على المؤسسات والإدارة العامة بأسرها، من مرافق ومؤسسات خدمية ورقابية وصولاً إلى القضاء، حيث أضحت التوزيعات السياسية تتم بطريقة فاضحة ويتم نشرها في الصحف على أنها أمر طبيعي، فيما هي واحدة من أسس انتشار الفساد وسوء الإدارة والخدمة العامة ككل.

وعلى مر السنوات، خلقت الميليشيات اقتصاداً موازياً ضخماً، وفيما كان الفساد يقتنص الصفقات في الكهرباء والمياه والإنترنت وغيرها من القطاعات، خلقت الأحزاب بؤراً في كل المناطق تقريباً لأصحاب مولدات الكهرباء، وموزعي مياه، ومقدمي خدمة الإنترنت وشبكات التهريب الواسعة، وسيطرت على مليارات الدولارات الإضافية التي اقتنصتها من حاجة اللبنانيين لهذه الخدمات الملحة.

شراء الوقت قبل الانهيار

ومع اتساع حجم النهب المنظّم، كانت حاجة لبنان تتزايد للدولارات لتوفير استمرارية التثبيت النقدي، وفي كل مرة كانت الدول المانحة تعقد اجتماعات لضخ الأموال في شريان منظومة الفساد المافيوية لإنقاذها. وتحت هذه المبررات انعقدت مؤتمرات باريس 1 في 2001 وثم باريس 2 في 2002 وفي 2007 باريس 3، إضافة إلى الهبات والقروض الثنائية ومن المنظمات الدولية والعربية، ومع بدء الأزمة المالية العالمية في 2008 تدفق إلى لبنان أكثر من 60 مليار دولار من الخارج شملت أموالاً أجنبية وعربية ولبنانية وضمناً أموال الزعماء وأصحاب المصارف الخائفين على ثرواتهم. 

هكذا عاش اقتصاد لبنان فيما يسميه حمدان "رعشة الموت" بين عامي 2008 و2010 حيث سجل لبنان أعلى معدلات نمو في تاريخه لتصل إلى ما بين 8% الى 9% فيما كانت المؤسسات والمصارف العالمية تنهار، وهذا ما سمح للمنظومة بشراء الوقت قبل الانهيار.

بدأ الربيع العربي في 2011 فيما يعيش لبنان نمواً قيصرياً مسنود إلى عملة مثبتة لا باقتصاد قوي وإنما بأسباب دولية طارئة، وتصاعد التناحر السعودي الإيراني إلى أوجه، وهبطت كل مصادر العملة الصعبة. الصادرات إلى الخليج عبر سورية نزلت إلى ما دون النصف، تصاعدت المقاطعة الخليجية بسبب الموقف من حزب الله، انهارت تجارة الخدمات من سياحة وتعليم وصحة، الاستثمارات الخارجية المباشرة توقفت وقيمتها كانت ما بين 3 إلى 4 مليارات دولار، القروض انقطعت. 

في واقعة تاريخية، وفيما لم يسجل ميزان المدفوعات منذ استقلال لبنان في العام 1943 حتى 2010، أكثر من سنتين متلاحقتين من العجز، أصبح الميزان منذ 2011 سالباً كل عام. وميزان المدفوعات هو قياس ما يدخل إلى البلد من عملة صعبة في مقابل ما يخرج منه. وفيما كان مصرف لبنان ينزف دولاراته، حصلت ما أسماها كسبار "الجريمة الكبرى".

ويستذكر أنه في العام 1986 لم يبق في مصرف لبنان سوى 300 مليون دولار، فلجأ حاكم مصرف لبنان حينها إدمون نعيم إلى وقف دعم الليرة بدلاً من التفريط بالدولارات الباقية  أو استدانة دولارات المصارف كما فعل رياض سلامة، وهبطت آنذاك قيمة الليرة أمام الدولار حوالي 90% ولكن بقي القطاع المصرفي قويًا جدًا ولم يتم تقييد أية سحوبات من أي مصرف.

ولكن ما حصل مؤخراً، هو انهياران، الأول هو هبوط سعر صرف الليرة لأن الدولة كانت تنفق بأكثر من طاقتها وتستدين فيما كانت الإنتاجية الاقتصادية متدنية. أما الانهيار الثاني فطاول المصارف سببه أن مصرف لبنان بالاتفاق مع أصحاب المصارف، أصبح يستدين دولارات الأخيرة عبر الهندسات المالية، بفوائد مرتفعة وصلت إلى 14% فيما كانت عالمياً ما بين 0.5% و1%.

هكذا هرول أصحاب المصارف إلى تحقيق الأرباح، وخفضوا القروض إلى القطاع الخاص ولجأوا إلى إقراض مصرف لبنان من أموالهم في الفروع اللبنانية والخارجية، في "جريمة نقدية واضحة" بحسب تعبير كسبار، وتمت هذه العملية تحت أعين كل الأجهزة الرقابية والبرلمان والحكومة والمسؤولين السياسيين.

خلال الحرب بين عامي 1975 و1990، يقول كسبار أن معدّل نسبة السيولة بالعملة الأجنبية لدى المصارف، كانت 99%، ولو تم إلقاء 10 قنابل ذرية كانت المصارف لتبقى قوية. إلا أنه في سبتمبر/ أيلول 2019 قبيل الانهيار، وصل معدل السيولة هذا إلى 7% فقط.

هذا ما أسس لانفلات الأزمة النقدية وفق حمدان، وسط الفساد والسطو على المال العام وتورط كل المعنيين بإدارة الشؤون النقدية من الحاكم إلى كافة المؤسسات وبينها وزارة المال.

أين ذهبت دولارات مصرف لبنان؟

ولكن أين ذهبت الدولارات التي استدانها مصرف لبنان من المصارف؟ يشرح كسبار  أنه خلال 2015-2019 دخل إلى مصرف لبنان حوالي 72 مليار دولار، منها 45 مليار استدانة مباشرة من المصارف. وذهب حوالي ثلث المبلغ الإجمالي كفوائد وتنفيعات إلى المصارف، وثلث آخر أشترته المصارف من مصرف لبنان بأرباحها بالليرة وحوّلته إلى الخارج بإسم أصحاب المصارف وليس بإسم مؤسساتها المصرفية، والباقي كنفقات وتدخلات في السوق.

وابتداءً من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 أوقفت المصارف الدفع للمودعين، فيما قام السياسيون والمسؤولون وتقريباً كل اصحاب المصارف وعائلاتهم بتحويلات ضخمة لأموالهم إلى الخارج، ولدى مصرف لبنان الأسماء.

وفي إحدى فصول المنهبة، أعد كسبار ورقة بحثية في العام 2017، أي قبل انكشاف الأزمة بسنتين، كشف فيها أنه يوجد خطر كبير ليس فقط على الليرة وإنما أيضاً وبشكل أهم على المصارف. وتضمن البحث جدولاً يقول بالأرقام أن موجودات مصرف لبنان الصافية أصبحت سالبة، أي أن مصرف لبنان أصبح عمليًّا مفلسًا بالدولار، حيث أنه لديه دين بالدولار أكثر مما يملك.

واجه كسبار حملة ضخمة قادتها وسائل إعلامية متعددة، ووصل الأمر إلى وقف مؤتمر أعدّه ناشرو الورقة، مؤسسات الأبحاث "كونراد أديناور" وبيت المستقبل"، تحت ضغط سياسي ومصرفي كبير، لا بل تم اعتبار البحث هجوماً على عهد رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، وتم تهديد كسبار بالسجن بتهمة تهديد المكانة المالية للدولة.

ولم تنحصر الجرائم المالية والنقدية التي ارتكبتها المافيات والميليشيات بإفلاس لبنان بعد نهبه، وإنما استمرت حتى يومنا هذا، حيث لم يتم التدخل حتى اليوم لوضع خطة إنقاذ للجهاز المصرفي وللاقتصاد، ولا تزال الإصلاحات ممنوعة، والتدقيق الجنائي مخفي، والسارقون خارج السجون، والأموال المهربة من دون حصر ولا خطة لاسترجاعها، بينما المصارف ومصرف لبنان المترابطين مع منظومة الميليشيات والمافيات، خائفون من أن تتم محاكمة حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في الخارج، خوفاً من كشف ما سيطاول الرؤوس الكبيرة.

المساهمون