استمع إلى الملخص
- يواجه الفلسطينيون تحديات كبيرة في انتشال جثث المفقودين بسبب حجم الركام ومنع جيش الاحتلال لعمليات الإنقاذ، مما يفاقم معاناة العائلات التي تنتظر معرفة مصير أحبائها.
- تتزايد المناشدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي من أهالي المفقودين للحصول على معلومات تخفف من وطأة الانتظار الطويل وتضمد الجراح المفتوحة.
تنتظر آلاف العائلات في قطاع غزة إجلاء مصير أبنائها من المفقودين الذين تتضارب المعلومات حول كونهم شهداء، أو اعتقلهم جيش الاحتلال خلال عملياته العسكرية في مناطق مختلفة.
تُخيم على عائلات آلاف المفقودين خلال الأشهر الماضية من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة حالة من الترقب والقلق مع بدء سريان وقف إطلاق النار، فغالبيتهم لا يعرفون شيئاً عن ذويهم الذين فُقدت آثارهم خلال الجرائم والمجازر المتكررة التي ارتكبها جيش الاحتلال، ولا تتوفر معلومات عن مصيرهم، ما يجعلهم ينتظرون أي بصيص أمل يُعيد إليهم بسمة اختفت قبل شهور.
ووفق إحصائية لمكتب الإعلام الحكومي في قطاع غزة، فقد بلغ عدد المفقودين منذ بداية حرب الإبادة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهم الذين لم يصلوا إلى مستشفيات القطاع أو يتم دفن جثامينهم، نحو 11,200 مفقود.
ويُعتقد أن الكثير من مفقودي قطاع غزة استشهدوا بالفعل، وأن جثامينهم تقبع تحت ركام المنازل المدمرة، ولم يتمكن أحد من استخراجها لأسباب متباينة، من بينها حجم الركام الكبير، وعدم توفر الإمكانيات اللازمة للبحث والانتشال، إضافة إلى منع جيش الاحتلال عمل أجهزة الدفاع المدني في العديد من المناطق، واستهدافها عشرات المرات، وسط مطالبات للمنظمات الدولية، وخاصة الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر، بضرورة التحرك لمعرفة مصير المفقودين.
ووثق المرصد الأورومتوسطي، ومقره في جنيف، في تقرير سابق، أنماطاً متكررة للنهج الإسرائيلي القائم على منع وعرقلة انتشال الضحايا والمفقودين الفلسطينيين من تحت أنقاض المنازل والمباني المدمرة، بما يشمل تكرار استهداف طواقم الدفاع المدني وفرق الإنقاذ والعوائل التي تحاول انتشال جثث الضحايا، ومنع إدخال الوقود اللازم لعمل ما تبقى من مركبات وآليات ثقيلة، ومنع إدخال المعدات.
يُعتقد أن غالبية مفقودي غزة استشهدوا وتقبع جثامينهم تحت الركام
بدوره، يقول رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، صلاح عبد العاطي، إن هناك نحو 15 ألف مفقود منذ اندلاع العدوان، إذ لم تبلغ أعداد كبيرة من العائلات عن مفقوديها، خصوصاً وأن مربعات سكنية تم تدميرها بالكامل، ومسحت فيها عائلات كاملة، وينتظر كثيرون انتهاء العدوان للوصول إلى تلك المناطق، وكشف مصير المفقودين.
يعيش الفلسطيني أحمد جاب الله في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، وهو واحد ممن طاولتهم نار الفقد خلال العملية العسكرية التي شنها الاحتلال على المنطقة في 11 مايو/أيار الماضي، والتي استمرت لنحو 20 يوماً، إذ فقد شقيقته سوسن (54 سنة). يسرد لـ"العربي الجديد" تفاصيل الواقعة، قائلاً إنه أراد النزوح مع عائلته من المخيم عقب إعلان جيش الاحتلال نيته تنفيذ العملية العسكرية البرية، ومطالبته السكان بالإخلاء الفوري، لكن حينها رفضت شقيقته سوسن ترك المنزل والنزوح معهم إلى مناطق غرب مدينة غزة.
يضيف جاب الله: "أصرت شقيقتي على البقاء في منزلها رغم محاولاتي إقناعها بضرورة المغادرة خشية على حياتها، خصوصاً أنها تعاني من عدة أمراض مزمنة أبرزها السمنة وارتفاع ضغط الدم. بعد فشل كل محاولاتي، نزحت مُرغما من دون اصطحابها. استمر التواصل معها عبر رسائل الهاتف لمدة أربعة أيام بعد نزوحنا، ثم بعدها انقطع الاتصال تماماً، الأمر الذي زاد حالة القلق لدي، لا سيّما أن الاحتلال كان يرتكب مجازر يومية ضد المدنيين".
لا يعرف أحمد مصير شقيقته منذ منتصف مايو/أيار الماضي، وهو يعيش في حالة من الترقب والقلق طوال تلك الفترة. يضيف: "منذ 8 شهور كاملة لا أعرف شيئاً عن سوسن، وأتمنى أن أعرف مكان تواجدها. هل هي شهيدة أم ما زالت على قيد الحياة؟ أنا راض بقضاء الله وقدره، واحتسبتها عند الله منذ شهور، لكن نريد أن ندفنها إن كانت شهيدة".
فقدت أثار الفلسطيني مصطفى محمود (32 سنة) في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، خلال نزوحه من مخيم جباليا، في ظل اشتداد العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة. ويقول شقيقه يوسف لـ"العربي الجديد": "نزح مصطفى من المخيم إلى بلدة بيت لاهيا بعد اشتداد القصف الإسرائيلي، وظل يرفض مغادرة شمال القطاع رغم الخطر، ثم أُصيب بشظية أحد الصواريخ التي سقطت في محيط مستشفى كمال عدوان. زوجته وطفلاه نزحوا إلى غرب مدينة غزة في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عبر الحاجز الذي نصبه جيش الاحتلال قرب المستشفى الإندونيسي في بيت لاهيا، بينما ظلّ هو في بيت لاهيا".
يضيف: "بعد اشتداد القصف المدفعي على المنطقة، اضطر إلى النزوح رفقة والد زوجته وشقيقها للالتحاق بزوجته في غرب مدينة غزة، وعندما وصلوا إلى منطقة (دوار أبو شرخ) غربي مخيم جباليا، تعرضوا لإطلاق نار من طائرة مسيرة من نوع (كواد كابتر). منذ ذلك التاريخ فُقدت آثار الأشخاص الثلاثة، ولم نعرف أي شيء متعلق بحالاتهم الصحية. آخر الأخبار التي وصلتنا من بعض الشبان النازحين تفيد بأن مصطفى مُصاب من دون أي تفاصيل أخرى".
تمضي الأيام ثقيلة على كل أفراد العائلة، خصوصاً والدة مصطفى وزوجته اللتين لا تكاد تتوقف دموعهما، لكنهما لا تزالان على أمل أن نعرف مصيره خلال الأيام القادمة. يقول يوسف: "عندما تدخل الهدنة حيز التنفيذ، سأذهب فوراً للبحث عن مصطفى، سأبحث في كل مكان، بين جثامين الشهداء، وفي الحارات والبيوت الموجودة في المنطقة".
بدورها، تعيش عائلة عبد القادر حياة يملؤها القهر على فقدان ابنها شادي (45 سنة) الذي يعاني من اضطرابات عقلية، قبل أكثر من عام، ولا يزالون ينتظرون أي خبر يثلج صدورهم حول مصيره.
يروي والده عبد الله عبد القادر، أنه في شهر أكتوبر 2023، نزح رفقة عائلته المكونة من أربعة أفراد من حي الشيخ رضوان في مدينة غزة إلى مخيم النصيرات في المحافظة الوسطى، بعد تهديدات الاحتلال بشن عملية عسكرية. ويضيف لـ"العربي الجديد": "بعد وصولنا إلى مخيم النصيرات بيومين، خرج شادي من المنزل الذي نزحنا إليه في وقت الظهيرة، ولم يعرف أحد منا المكان الذي كان ينوي الذهاب إليه، رغم أنه اعتاد أن يُخبرنا دائماً. كان يردد منذ اللحظات الأولى لوصولنا إلى المحافظة الوسطى (بدي أرجع على دارنا في غزة)، لكنه لا يدرك مدى صعوبة الأوضاع الميدانية. غادر شادي المنزل من دون علم أي من أفراد العائلة، ثم اختفت آثاره منذ ذلك الحين".
ويشير الوالد المسن إلى أنه تواصل مع كل الجهات المعنية في محاولة للحصول على أي دليل للتعرف على مصير شادي، لكن من دون جدوى، حتى تبدد الأمل لديه، ويردد: "وكّلت أمري إلى الله، وإن شاء الله يرجع لنا سالماً".
لا يزال غسان سعدة (32 سنة) مفقوداً منذ ما يزيد عن العام، وذاقت عائلته مرارة الانتظار بلا نتيجة. يحكي والده أبو غسان لـ "العربي الجديد"، أنه فقد نجله البكر في التاسع من يناير/ كانون الثاني 2024، بعد خروجه من المنزل صباحاً باتجاه المناطق الغربية لمخيم جباليا، من دون إبلاغ العائلة، وحين حلّت ساعات المساء من دون عودته، بدأ القلق يُسيطر على العائلة التي كانت تعتقد أنه سيمضي ليلته عند أحد أصحابه.
مرّت تلك الليلة، والأمل لا يزال يراود العائلة بأن غسان سيعود في صبيحة اليوم التالي، لكنه لم يعد، ومع مرور الأيام بدأ يتلاشى الأمل في عودته، وارتفعت وتيرة القلق لدى العائلة التي خرج جميع أفرادها للبحث عن غسان في مستشفيات شمال القطاع، ظناً منهم أنه قد يكون مُصاباً أو شهيداً. استمروا بالبحث لمدة 10 أيام متواصلة، وفي 18 يناير 2024، كان شقيقاه باسل ومؤمن يواصلان البحث عنه، وعند وصولهم إلى منطقة "دوار التوام" شمال غربي مدينة غزة، أطلقت دبابة إسرائيلية قذيفة صوبهم، ما أدى إلى استشهادهما على الفور.
اجتمع على العائلة وجع الفقد مع وجع الاستشهاد، وزادت الغصّة في قلب أبو غسان المكلوم. يقول: "ربنا يعوضنا خير عن الشهداء، ونأمل أن نلتقي بغسان في القريب العاجل، لأن الانتظار صعب".
وتضج مواقع التواصل الاجتماعي بمئات المناشدات من أهالي مواطنين فُقدت آثارهم في مختلف مناطق قطاع غزة، خصوصاً المناطق التي تعرضت لعمليات عسكرية إسرائيلية استمرت لعدة أيام في خضم حرب الإبادة الجماعية، أملاً في الوصول إلى أي معلومات تخفف عنهم وطأة الانتظار الطويل، وتُضمد الجُرح المفتوح.