استمع إلى الملخص
- خلال عهد الأسد الأب، لم تحدث تحولات كبيرة في وضع المرأة التعليمي، ورغم جهود الاتحاد العام للمرأة السورية، لم يتحقق تقدم كبير في المساواة القانونية، لكن القفزة التنموية في السبعينيات قلصت الفجوة بين المرأة الريفية والمدينية.
- الثورة والحرب أعادت خلط الأوراق، مما ضيق دور المرأة بسبب الثقافة الذكورية، ومع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، يبقى دور المرأة مرهونًا بتقليل التأثير الأيديولوجي وتوسيع الحرية، لكن التسريحات الأخيرة تهدد الكفاءة الاجتماعية النسوية.
كان الاختلاف حول دور المرأة في المجتمع المديني السوري قد ظهر في نهاية عشرينيات القرن الماضي بين الوطنيين والرجعيين، واحتدم في فترة الانتداب الفرنسي، ولم يقبل المحافظون الحرية النسبية التي حصلت عليها النساء، وتظاهروا مستنكرين مظاهر التحرّر في أكثر من مناسبة.
واستطاعت القوى الدينية المحافظة إحباط محاولات تغيير قوانين الأحوال الشخصية في تلك الفترة، ووصل الأمر إلى التحريض على الزعيم الوطني (العلماني) عبد الرحمن الشهبندر، ومن ثم اغتياله على يد أحد المتطرفين عام 1940، بتحريض من بعض رجالات الكتلة الوطنية.
ومع ذلك، حصلت المرأة السورية بعد الاستقلال على حقها في الانتخاب لأول مرة في فترة الانقلاب العسكري الثاني بزعامة سامي الحناوي (1949)، ثم على حق الترشُّح 1953 أواخر عهد الشيشكلي. وهنا من الضروري الإشارة إلى الدور الريادي لأكرم الحوراني حول المساواة والعدالة وإنصاف المرأة في تلك الفترة، فهو القائل، في معرض حديثه عن تعديل قانون الانتخاب: "إنّ المرأة (العربية!) أسلمُ حسّاً وأنزه نفساً وأكثر إنسانية وأشدّ حصانةً من الرجل، وبالرغم من ذلك فهي مضطهدة، كأنها شبه عار" (مذكرات الحوراني، ج 2، ص 1036).
في بداية عهد الأسد الأب، كان فارق تنموي كبير يجب على المرأة الريفية أن تتجاوزه للاقتراب من حياة المرأة في المدينة
وبالرغم من الحديث عن التقدمية والعصرنة، لم تحدث تحولات اجتماعية عميقة تتعلق بوضع المرأة التعليمي خلال ربع قرن بعد الاستقلال. على سبيل المثال، زادت نسبة المنتسبات إلى المدارس الابتدائية فقط من 29% عام 1946 إلى 34% عام 1969، بينما زادت نسبة المنتسبات إلى المدارس المتوسطة والثانوية من 23% إلى 24% لا غير في الفترة ذاتها، لا بل إنّ نسبة الجامعيات تراجعت من 21% إلى 19% بين عامَي 1952 و1970. فحتى البعث، وإن كان مقتنعاً بضرورة تفعيل دور المرأة في المجتمع، إلّا أنه لم يجرؤ على التدخل في نسيج التقاليد المحافظة والعوائق الدينية. ومع كل الجهود التي بذلها الاتحاد العام للمرأة السورية (تأسّس عام 1967) في محو أمية النساء وتدريبهنّ المهني، ضرباً من تحسين شروط الحياة التقليدية، لم يحدث أيّ تقدم يذكر على صعيد الأحوال المدنية والمساواة القانونية للمرأة مع الرجل (كمال ديب، تاريخ سورية المعاصر، ص 235 – 238).
وفي بداية عهد الأسد الأب، كان ثمة فارق تنموي كبير يجب على المرأة الريفية أن تتجاوزه للاقتراب من حياة المرأة في المدينة، بسبب سوء نوعية الخدمات في الريف أو غيابها، كالكهرباء والاتصالات والصحة، وقد ساعدت القفزةُ التنموية الكبيرة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي في تقليص فجوته. وعندما بدأت الهجرة من الريف باتجاه ضواحي المدن الرئيسة، وقعت المرأة الريفية في بعض الأوساط الدينية في شباك الإسلاميين، بسبب الفقر وضيق العيش، وصار بالإمكان التضييق عليها باسم الدين، ولم يكن ذلك ممكناً في الريف، حيث على المرأة أن تذهب إلى الحقول وتشارك في مختلف الأعمال الزراعية على الأقل، بينما استفادت الريفية في أوساط الأقليات الدينية على نحو خاص من مساحة الحرية التي تُتيحها التقاليد غير الصارمة المتعلقة بالحركة والعمل، وتعزّزت هذه الحرية من خلال انتماء بعض النساء إلى أيديولوجية السلطة التي تشجع على الانفتاح والتحرر بالطريقة التي تخدم توجهاتها. عندئذٍ، حدث شرخ اجتماعي حتى بين النساء من الأصول الريفية ذاتها عند استقرارهنّ في الضواحي، ولو أن العمل المشترك لبعضهن في الوظائف والمؤسسات الحكومية حدَّ من هذا الشرخ.
كما سعى نظام الأسد الأب إلى إحداث توازن بين نساء الريف ونساء المدينة، ونظراً إلى الغياب شبه التام للطبقة المتوسّطة في الريف، كان يجب إنتاج نموذج جديد للمرأة الريفية من الصفر ليصل بها إلى أعلى شرائح الطبقة الوسطى، شريطة أن ترتدي لباس أيديولوجية السلطة بلا مواربة، وهنا يمكن أن تحضر شخصية المترجمة والمستشارة بثينة شعبان مثالاً صارخاً.
أعادت الثورة والحرب خلط الأوراق، وكانت وجهتها العامة في التضييق على دور المرأة، لأن الحرب هي امتداد للثقافة الذكورية بصورة ما
وفي المدينة، وضمن لعبة توزيع الأدوار وشق الصفوف، التي برع بها نظام الأسد الأب، كان يجب إبراز (واستيعاب) دورين للمرأة؛ المرأة المتحرّرة من جهة، كشخصية السيدة نجاح العطار، والمحافظة، ممثلة بشخصية الداعية منيرة القبيسية، من جهة ثانية. خدم هذان النموذجان النسائيان هيمنة السلطة في المجتمع، مباشرة بالنسبة للحالة الأولى وعلى نحوٍ غير مباشرٍ بالنسبة للثانية، إذ اضطلعت جمعية القُبيسيات بدور استثنائي في إنتاج الثقافة الذكورية تحت يافطة الدين، فخدمت احتياجات السلطة المستبدة والمجتمع المحافظ في آنٍ معاً.
لاحقاً، أعادت الثورة والحرب خلط الأوراق، وكانت وجهتها العامة في التضييق على دور المرأة، لأن الحرب هي امتداد للثقافة الذكورية بصورة ما، وبقي على المرأة أن تجد في الثغرات الاجتماعية التي تركها المتقاتلون وراءهم منفذاً للقيام بأدوار (وأعباء) اجتماعية جديدة.
يتوقّف الدور المنتج الذي يمكن أن تؤدّيه المرأة السورية في الوقت الحالي على الحدّ من اللون الأيديولوجي الواحد (والمتطرف) الذي تشجع عليه بعضُ أطرافِ السلطة الحالية أو بعض مؤيديها بوصفه نمطَ حياة، ما يضيِّق من مساحة الحرية في الاختيار ويهدّد الدور النسوي خارج البيت، وهو الدور الضروري للمساهمة في عملية التنمية التي يُفترض أن تنطلق بعد البدء برفع العقوبات الدولية التي أنهكت الشعب السوري منذ حوالى خمسة عقود. وإذا أضفنا إلى ذلك التسريحات الأخيرة من الوظائف المدنية، التي تمثل الكوادر النسائية جزءاً مهمّاً منها، فإن الكفاءة الاجتماعية النسوية ستتأثر بشدة، وسينعكس ذلك على المجتمع ككل، ولا تكفي بالطبع بعض التعيينات الجزئية لنساء في مراكز محدّدة للإيهام بوجود مشاركة نسائية ذات شأن.