استمع إلى الملخص
- في بلدي، تجري حكاية ملحمية تراجيدية مليئة بالدماء والأسباب غير المفهومة، مما يخلق اضطرابًا في الحدود والعلاقات، ويؤثر على المستقبل في ظل تأثير وسائل مثل فيسبوك.
- تمثل المجازر في الساحل درسًا قاسيًا، حيث يختلط الحقد والخوف، مما يؤدي إلى مغالطات عقلية، ويجب أن تكون هذه الأحداث الفصل الأخير لنبدأ حكاية جديدة.
ما أفضل ما تفعله لتصفية الماء العكر؟ امنحه الوقت الكافي ليفعل ذلك بنفسه، بأن تتركه وشأنه. سيساعد على ذلك فهم أن الحكايات كلها متشابهة، لديها قواعد صارمة من الصعود نحو العقدة، ثم الذروة، المكوث قليلاً في الخوف والقلق، ثم الهبوط نحو الحل. تنفس الصعداء، ثم الصعود مجدداً نحو عقدة جديدة.
تفعل الأشياء نفسها في المسلسلات، والروايات، وسير الأجداد، ونمائم السهرات، وفي حياتنا كذلك.
حياتنا وحدها ما تبدو عصية على إدراك القواعد الحكائية فيها، لأنها تحدُث الآن، ولأننا نعيش في داخلها. وحين تنتهي أو تمضي أجزاء وازنة منها، سنبدأ بالتعامل معها كما هي حقاً: حكاية.
سنعيد فهمها، وفهم ما جرى فيها، ولماذا جرى، سنقول لأنفسنا: نعم نعم صحيح، هكذا تفعل الأشياء.
سنغفر لمن نراهم الآن أشرار الحكاية، وسنضمد جراح من ظننا أنهم متمارضون، وسنربت على كتف من نتشفى منه الآن، ففي نهاية الحكايات تستعيد أغلب الشخوص إنسانيتها.
في بلدي الآن تجري حكاية. حكاية كبيرة من تلك التي يسميها النقاد ملحمية، شخوصها تراجيدية، وضحاياها بسطاء. تسيل فيها دماء كثيرة، وأغلبها دماء بريئة، وأسباب نزفها غير مفهومة، ولكنها تسفك.
يوماً ما، ستنتهي هذه الحكاية، أو بشكل أدق، هذا الفصل الدامي منها، وعندها سنراها بطريقة أخرى، وسنندم لكمّ الأخطاء التي ارتكبناها تحت تأثير الغضب أو الخوف أو اضطراب الرؤية.
ألم يقولوا منذ زمن بعيد إن الأهواء تلوث الفهم؟ وأي الأهواء أشد من الخوف والغضب؟
في مسار الحكاية التي يكتبها بلدي لنفسه، هناك الكثير من هذين الملوثين، لذلك تبدو الحدود رجراجة، والعلاقات مضطربة، والمستقبل غامض، ونبدو نحن الناس حمقى. وفوق كل ذلك، أو ربما لأجل كل ذلك، هي واحدة جيدة بين الحكايات.
وللأسف، في الحكايات الجيدة، تعاني الشخصيات كثيراً، تتحمل فوق طاقة البشر بكثير، وهذا ما نحن عليه.
في أجواء هذه الحكاية، من الطبيعي أن يكون الفضاء العام مجنوناً، خصوصاً إذا ما كان تلقيه، والانخراط فيه، يتمّان عبر وسائل غير بريئة بالضرورة، مثل أن تفهم المشهد في بلاد بهذا الاضطراب من وسيلة مثل فيسبوك، فيها مساحة كبيرة لعبث العابثين، وتحريض المحرضين، وفيها من القدرة على جرّ أعقل العقلاء إلى الساحة الخلفية لملعب الغوغاء.
المجازر التي وقعت، وما زالت تقع في الساحل كان لها أن تكون الدرس الأخير الذي نحتاجه لإقفال هذه التراجيديا، لولا أنها تجري في فضاء عكر، ملوث بالحقد وبالخوف، وباضطراب الرؤية. وبصراخ بدائي يستنهض شهوة الدم، ولكن، وبحكم أنه يعلو في وسيلة عصرية مثل فيسبوك، فهو يغلّف نفسه بمغالطات عقلية (وضميرية كذلك) مثل الإنكار، التبرير، الخلط بين ضحايا ومجرمين، توجيه اللوم إلى هوامش الأشياء بدلاً من متنها، مثل أن يقتل طفل بطريقة وحشية في قرية ببانياس، فتعوض عجزك عن محاسبة القاتل، بتفنيد تفاصيل الصورة المنشورة لجثته، أو تقرّع ممثلاً لأنه لم ينشرها، أو تنفي القصة من أساسها، أو تذهب إلى اتهام الاهتمام بها على أنه تعطيل لقضايا كبرى، أو مئات التقنيات الدفاعية الأخرى.
أفهم أن هذه طبيعة الأشياء في الحكايات الكبرى، لكني أفهم أيضاً، أن على واحد من هذه الأحداث، أن تصبح الفصل الأخير من حكايتنا، لنبدأ بحكاية جديدة، تذهب باتجاه ذروة مختلفة، ليست فيها دماء. وريثما يحين ذلك، ليس لنا سوى أن ننتظر صفاء هذا الفضاء.