الفروسية في تونس... أسر تحاول صون التراث وسط عزوف شبابي

الفروسية في تونس... أسر تحاول صون التراث وسط عزوف شبابي

09 اغسطس 2022
تترجم عروض الفروسية قيماً ومبادئ كثيرة (العربي الجديد)
+ الخط -

تُعَدّ الفروسية واحدة من أقدم الرياضات التي عرفها الإنسان عالمياً، وهي تحظى بمكانة خاصة لدى بعض التونسيين الذين تربّوا على تقديرها، فيما يحاولون اليوم نقل شغفهم إلى أبنائهم.

تحرص أُسَر تونسية عدّة على صون تراث الفروسية في البلاد وتنشئة جيل جديد من الفرسان عبر توريث ركوب الخيل إلى الشباب، فيما يتقلص الاعتراف الرسمي بمحافل الفرسان الذين يكتفون بالعمل الموسمي في المهرجانات والأفراح العائلية. 
وتمثّل حماية تراث الفروسية من الاندثار أحد تحديات أُسَر كثيرة في منطقة بوجحلة بمحافظة القيروان وسط غربي تونس التي تنظّم سنوياً مهرجاناً مغاربياً للفروسية، وذلك كوسيلة للتركيز على هذه الرياضة التي تختزل جزءاً كبيراً من تاريخ البلاد ومقاومة الاستعمار.
منجي كرعود من أسرة تعمل من أجل إبقاء الفروسية حيّة، ويقول لـ"العربي الجديد" إنّ "هذا التراث يواجه خطر الاندثار على الرغم من مجهود كبير تبذله أسر ما زالت تتشبّث بهذه الرياضة وتسعى لتوريثها إلى أجيال جديدة وتحويلها إلى مصدر يوفّر تنمية في المناطق الداخلية". ويوضح كرعود أنّ "تراث الفروسية في تونس ثريّ جداً وقادر على خلق مصادر رزق مستدامة، غير أنّ تراجع الاعتراف الرسمي بقيمة الفارس يحول دون إطلاق مشاريع في تربية الخيل والتدريب الحديث على الفروسية".
يضيف كرعود أنّ "أُسَراً عديدة في منطقتي تحاول من خلال إمكانات ذاتية زرع شغف الفروسية في الأجيال الجديدة على الرغم من ضعف إمكاناتها"، لافتاً إلى أنّ "التدريب على الفروسية يتطلّب تنظيماً لوجستياً، ولا سيّما تربية الخيول الأصيلة وتجويدها إلى جانب توفير السروج والأزياء الخاصة بالفرسان". ويتابع قائلاً إنّ "ثمّة أزياءً وأصنافاً من السروج من قبيل السرج القيرواني اندثرت تماماً باندثار المهن المرتبطة برياضة الفروسية، من بينها خياطة وتطريز الملابس الخاصة بالفرسان وصناعة السروج".

فرسان وفروسية في تونس 2 (العربي الجديد)
فرسان وفروسية في تونس (العربي الجديد)

ويرى كرعود أنّ "الأُسَر التي توارثت على مرّ الأجيال شغف الفروسية هي الأكثر تشبّثاً بالحفاظ على هذا التراث، من بينها عائلات البكوش وبوقرة والفالح والصويعي"، مشيراً إلى أنّ "من أبرز المصاعب التي تعترضها، تكاليف تجويد الخيول وتربيتها". ويشرح كرعود أنّ "تربية الخيول تحتاج إلى كثير من المال"، مشدّداً على "أهمية الاعتراف الرسمي بالفروسية كمهنة تراثية وتوفير مداخيل ثابتة تساعد في استمرار هذا التراث، ولا سيّما أنّ الجهود التي تبذلها أُسَر الفرسان غير كافية لضمان دوام هذه الرياضة مستقبلاً".
ويشدّد كرعود على أنّ "الحفاظ على تراث الفروسية في البلاد يتطلب تطويرها نحو مهنة مدرّة للدخل الثابت، فالأجيال الجديدة لا تتشبّث بالمهن التي لا توفّر المردود المالي الكافي". ويبيّن في هذا الإطار أنّ "مردود عروض الفروسية ضئيل وموسمي"، لافتاً إلى أنّ "الفارس عموماً يتميّز بعزّة نفس تمنعه من طلب أجر لقاء العروض التي يقدّمها في المهرجانات أو الأفراح الخاصة".
وتقترن عروض الفروسية بالمهرجانات والأفراح، وهي عموماً مهنة موسمية، علماً أنّ الاعتناء بالأحصنة يستوجب مصاريف يومية من علف ومتابعة طبية وتنظيف إلى جانب غلاء التكاليف الأخرى من قبيل الزيّ الخاص بالفارس ومستلزمات أخرى. يُذكر أنّ ثمن السرج يتجاوز ثلاثة آلاف دينار تونسي (نحو 950 دولاراً أميركياً).
تاريخ حافل بالبطولات
بالنسبة إلى كرعود، فإنّ "الفروسية في تونس تختزل تاريخاً حافلاً ببطولات الفرسان في منطقة جلاص بالقيروان، وفي مدن الجنوب والشمال الغربي عند مقاومة الاستعمار الفرنسي في خلال مرحلة الكفاح الوطني من أجل نيل الاستقلال". ويخبر أنّ "الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة اعترف بالفرسان الذين كانوا في استقباله يوم عودته من المنفى في ميناء حلق الوادي، وقد امتطى حينها صهوة جواد أحد فرسان جلاص".

الصورة
فرسان وفروسية في تونس 3 (العربي الجديد)
تراث تاريخي للفروسية في تونس (العربي الجديد)

ويتحدّث كرعود عن "اللعب بالمشاف، وهو أحد استعراضات الفروسية التي يستخدم الفارس في خلالها بندقية أو سيفاً، وهي ترمز إلى النضال في وجه الاستعمار الفرنسي. كذلك تترجم عروض الفروسية قيماً ومبادئ كثيرة يحملها الفارس، من بينها اللحمة والعزيمة في الهجوم على العدو في عرض المشاف بالعقد الذي تتميّز به منطقة الجنوب التونسي، وهو عرض يشارك فيه أكثر من 10 فرسان ويقدّمون لوحة مشتركة باستخدام البنادق أو السيوف". ويكمل كرعود: "أمّا عرض المداوري، فهو عرض للأفراح ويقدّم في خلاله الفارس استعراضاً على أنغام الطبل أو الموسيقى التقليدية، ويُصار في خلاله إلى ترويض الخيل للرقص على تلك الأنغام".

وتأتي المهرجانات التراثية التي تحتفي بالفروسية تعبيراً عن التمسّك بهذا التراث، وتلجأ إليها الأسر والمناطق المتشبّثة بهذه الرياضة. كذلك يُصار إلى دعوة الفرسان من الجزائر وليبيا للمشاركة في مسابقات تُقام على هامش هذه المهرجانات التي تتخللها فقرات استعراضية يترقّبها المهتمون برياضة الفروسية.
ويحرص الفرسان في المهرجانات على ارتداء الزيّ التقليدي الذي يتألّف أساساً من سروال فضفاض وعمامة وفرملة رجالية مطرّزة، من دون أن يغيب الاهتمام بسروج الخيول التي تُطرَّز بنقوش مستمدّة من التراث التونسي، مضفية على صهوات الخيول رونقاً وجمالاً يختلفان من جهة إلى أخرى.
وعلى الرغم من أنّ الفروسية تُعَدّ رياضة مرتبطة بالرجال بامتياز في البلاد، فإنّها صارت تستهوي كذلك النساء التونسيات. ونرى شابات ينتمينَ في العادة إلى أسر ذات تاريخ في رياضة الفروسية، يخضنها، علماً أنّ مدرّب الواحدة منهنّ يكون في الغالب إمّا الأب وإمّا الأخ.
في سياق متصل، تُعَدّ تربية الخيول البربرية عادة ضاربة في القدم بتونس، إذ يعود هذا النشاط بحسب المؤسسة الوطنية لتحسين وتجويد الخيول إلى أكثر من ألف سنة قبل الميلاد عند قبائل شمال أفريقيا. وقد استخدم الفرسان الخيول البربرية في خلال الفتوحات الرومانية بقيادة القائد القرطاجني حنبعل. ومن جهة أخرى، استُخدمت الخيول العربية في الفتوحات الإسلامية.

المساهمون