العالقون في الفاشر... "أسرى" الفوضى والرعب والقبور المبعثرة

05 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 00:42 (توقيت القدس)
نازحون من الفاشر تمكنوا من الوصول إلى الدبة، 3 نوفمبر 2025 (الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعيش مدينة الفاشر في حالة من الفوضى والرعب بعد سيطرة قوات الدعم السريع، حيث تعرضت لجرائم وانتهاكات جسيمة، مما أدى إلى تكدس الجثث وانعدام مقومات الحياة الأساسية.
- يعاني السكان من الخوف بسبب استمرار الانتهاكات وغياب الأمان، مع نقص في الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والرعاية الصحية، مما يزيد من معاناتهم.
- نددت شبكة أطباء السودان بمحاولات منع النزوح واحتجاز المدنيين، داعية إلى إطلاق سراحهم وفتح مسارات آمنة لتجنب كارثة بيئية.

يعيش أهالي الفاشر العالقون حالة أشبه بالغيبوبة يعتريها الخوف والترقب بعد فظاعة الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، وسط انعدام مقومات الحياة وظروف نفسية قاهرة ونزوح محظور.

بعد مرور أكثر من أسبوع على سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر غربي السودان، لا يزال آلاف المدنيين العُزّل عالقين في جحيم المدينة التي تحولت منازلها ومرافقها العامة إلى أنقاض، واكتظت شوارعها بالجثث، ورُويت بدماء الأبرياء الذين أنهكتهم حرب السودان، قبل أن تكون نهايتهم على يد قوات الدعم السريع، بأبشع أنواع الجرائم والانتهاكات النفسية والجسدية.

الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، والتي قاومت التجويع والحصار المُحكم منذ عام ونصف العام، كانت قد شهدت أخيراً مجازر مروّعة وانتهاكات جسيمة. وخلال الأيام الماضية، عاش آلاف السكان العالقين في المدينة وأولئك الذين عادوا إليها بعد تراجع عمليات القتل والإعدامات الميدانية، ومن أعيدوا إليها قسراً، لحظات عصيبة مليئة بالرعب والخوف، من جراء ما شاهدوه بأم العين من أعمال تنكيل وسحل وجرائم قتل جماعي ارتكبتها قوات الدعم السريع، حيث أفرغ جنودها جلّ غضبهم منتقمين من السكان المدنيين بعد انسحاب قوات الجيش السوداني والمقاتلين إلى جانب صفوفه.

ويعيش السودانيون العالقون في الفاشر ظروفاً نفسية وصحية قاهرة، من جراء فظاعة الانتهاكات، وانقطاع الاتصالات، وصعوبة الحركة، واستمرار عمليات التفتيش لأيام بذريعة البحث عن عسكريين ألقوا سلاحهم، وانخرطوا بين أوساط الأهالي. ويصف بعض الأشخاص من داخل الفاشر، الذين أُتيحت لهم فرصة التواصل، ما جرى بـ"غير المتوقع والصادم" إزاء بشاعة الجرائم وعمق الكارثة الإنسانية. ويخبرون "العربي الجديد" أن الجثث كانت تتكدس في الشوارع، حتى بعد مرور وقت على انتهاء القتال المباشر وانسحاب الجيش ونزوح المواطنين، وأن عشرات المصابين حينها لم يتم إسعافهم وتُركوا لمواجهة مصيرهم، فكان أن فارقوا الحياة، ونُقلت جثثهم إلى أماكن مجهولة خارج المدينة، مرجحين أنهم دُفنوا في مقابر جماعية من دون أي إجراءات قانونية.

ويقول أحد العالقين بالفاشر، طلب عدم الكشف عن هويته لدواعٍ أمنية: "بعد مرور ساعات عديدة كانت الجثث تتكدس في الطرقات، وداخل المنازل، وحتى في الأنفاق التي كان يستخدمها المدنيون بوصفها أماكن محصّنة. وبقيت تلك الجثث إلى أن جمعها أفراد يرتدون الزيّ العسكري، حيث وضعوها في آليات ونقلوها خارج المدينة". ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أن "الانتهاكات ما زالت قائمة، سواء أثناء عمليات البحث والتدقيق وتفتيش المنازل والمقرّات أو خلال تجمعات المواطنين، حيث قُتل الكثيرون بشبهة أنهم عسكريون لم يتمكنوا من الفرار قبل سقوط المدينة".

ويتحدث لـ"العربي الجديد" مصدر آخر من الفاشر عن حالة التوجس والخوف التي يعيشها المواطنون، "وهم الذين بقوا تحت حصار طويل دام 18 شهراً، واختبروا خلاله مرارة الجوع وأشد أنواع الجرائم والانتهاكات، قبل أن يجدوا أنفسهم في خضم معركة حُسمت فوق رؤوسهم، وانتهت بمقتل العديد منهم". ويضيف المصدر الذي فضّل كذلك إبقاء اسمه طي الكتمان لدواعٍ أمنية: "لا يستطيع المواطنون التنقل والحركة في المدينة، من جراء شبح الموت الذي يخيّم على شوارعها، ورائحة البارود التي تنبعث بين زواياها، وسط حالة من الحزن والظلام، حتى يكاد يُسمع نواحها من شدة الفاجعة التي ألمّت بسكانها، وتركتهم في عداد القتلى أو الجرحى أو النازحين، ينشدون طوق نجاة في غياهب الضياع". ويتابع: "يمكن تلمّس حجم القلق الذي ينتاب المواطنين، حيث يترقب معظمهم العواقب والمخاطر التي قد تلحق بهم، في ظل غياب سلطة قابضة وسيطرة جنود مدجّجين بالسلاح والإجرام".

وتكشف إحدى الناجيات التي أُعيدت إلى المدينة المنكوبة بعد فرارها ووصولها إلى منطقة قرني، أن المواطنين يعيشون حالة أشبه بالغيبوبة، وأنهم مفجوعون بمقتل المئات من ذويهم دون أن يتمكنوا من دفنهم، وبآخرين ما زالوا في عداد المفقودين والمختفين قسراً في سجون المدينة التي اكتظت بالأبرياء. وتقول لـ"العربي الجديد": "كنا قد نزحنا من مدينة الفاشر التي أنهكها الجوع والمرض والقصف المستمر طيلة فترة الحصار، وصارت تفتقر إلى أدنى الخدمات الحيوية، مثل المياه والكهرباء والرعاية الصحية، فضلاً عن التدهور الأمني. وبعدما اقتربنا من الوصول إلى مدينة طويلة التي تستقبل آلاف النازحين منذ بدء حرب السودان، أجبرتنا قوات الدعم السريع على العودة من منطقة قرني، وأغلقت كل الطرق أمامنا، ومنعت جميع النازحين من مواصلة الطريق نحو مناطق شبه آمنة توفر بعض الخدمات".

الصورة
تتفاقم مأساة أهالي الفاشر، الدبة، 3 نوفمبر 2025 (الأناضول)
تتفاقم مأساة أهالي الفاشر، الدبة، 3 نوفمبر 2025 (الأناضول)

وتضيف الناجية التي أبقت اسمها طي الكتمان خوفاً على سلامتها: "سُمح للعائدين بالسكن في المنازل الخالية، بعضهم عاد إلى منازله، وبعضهم الآخر فضّل البقاء ضمن تجمعات المواطنين الذين يعيشون في شبه مخيمات، ويتشاركون كميات المياه القليلة المتوفرة، والمواد الغذائية التي بدأ توزيعها بصورة عاجلة من أجل إقناع الأهالي بعدم التفكير في النزوح مرة أخرى". وتؤكد أنهم بأمسّ الحاجة إلى الأمان أكثر من أي أمر آخر".

ورغم محاولة إعادة الحياة إلى طبيعتها في مدينة الفاشر المنكوبة، إلا أن حجم الدمار والرعب وآثار الموت في الطرقات والقبور المبعثرة في كل مكان، كلها عوامل تفاقم معاناة المواطنين العالقين وتثير مخاوفهم، بحسب ما وصفته الناجية ذاتها. وتتابع: "لم تختفِ أصوات الرصاص والقذائف، بل ما زلنا نسمعها في أرجاء متفرقة، ولا نعلم إن كانت عمليات إعدام أم غيرها. صار كل شيء متوقعاً ومستباحاً وسط التفلت الأمني، إذ يواصل المسلحون دخول منازل الأهالي وتفتيشها ونهب ممتلكاتهم".

تمكنت مريم من الخروج من الفاشر، غير أن قوات الدعم السريع أجبرتها على العودة بعد ثلاثة أيام من سقوط المدينة، وتقول لـ"العربي الجديد": "ترزح الفاشر اليوم تحت فوضى قاتلة بعد الاستيلاء عليها، حيث ينعدم أي شعور بالأمان وسط انتشار المسلحين وارتداء بعضهم ملابس مدنية، كما تنتفي الخدمات الأساسية مثل مياه الشرب والكهرباء والخدمات العلاجية والرعاية الطبية". وتضيف: "بقاؤنا في الفاشر ضرب من ضروب المخاطرة بأرواحنا وأمننا وسلامتنا، بينما تمنعنا قوات الدعم السريع من مغادرة المدينة، بزعم أنها ستعيد الحياة إلى طبيعتها، لكن الخراب أكبر ممّا يمكن إصلاحه بالسرعة التي يتحدثون عنها".

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

بدورها، نددت شبكة أطباء السودان بمحاولة قوات الدعم السريع منع المواطنين من النزوح إلى المناطق الآمنة، حيث أجبرتهم على العودة إلى الفاشر، ومنعت أولئك الذين يريدون المغادرة. وأفادت الشبكة في بيان، بأن "قوات الدعم السريع لا تزال تحتجز آلاف المدنيين داخل مدينة الفاشر، وتمنعهم من مغادرتها، بعدما صادرت كل الوسائل العاملة في نقل النازحين. كما أعادت عدداً من الفارّين إلى داخل المدينة جبراً، من بينهم مصابون بطلقات نارية أثناء محاولتهم الهروب، وآخرون يعانون من سوء التغذية".

وتابعت الشبكة: "إن استمرار احتجاز هذا العدد الكبير من المدنيين في ظل أوضاع إنسانية بالغة التعقيد، وشحّ حاد في الأدوية، ونقص في الكوادر الطبية التي لا تزال قوات الدعم السريع تحتجز بعض أفرادها، فيما لا يزال آخرون مختطفين من عناصرها، تشكل كارثة إنسانية متفاقمة. وعليه، هناك ضرورة عاجلة للمطالبة الجماعية بإطلاق سراح المدنيين فوراً، وفتح مسارات آمنة لخروجهم، وإتاحة الفرصة للمنظمات العاملة من أجل دفن الجثث التي يمثل استمرار انتشارها عند أطراف المدينة كارثة بيئية".

الصورة
تعيد قوات الدعم السريع الفارّين من الفاشر، الدبة، 1 نوفمبر 2025 (الأناضول)
تعيد قوات الدعم السريع الفارّين من الفاشر، الدبة، 1 نوفمبر 2025 (الأناضول)

وبحسب متطوعين في مدينة طويلة، توقف تدفق المواطنين من الفاشر منذ أيام عدة، وذلك بسبب محاولة قوات الدعم السريع إبقاء الأهالي في المدينة. ويقول المتحدث الرسمي باسم تنسيقية النازحين واللاجئين في دارفور، آدم رجال، لـ"العربي الجديد": "تقلصت حركة النازحين إلى مدينة طويلة بشكل كبير، مقارنة بالأيام السابقة، مع تواتر أخبار عن أن قوات الدعم السريع منعتهم من مغادرة الفاشر، وأعادت النازحين الذين فرّوا من المدينة بعد وصولهم إلى منطقة قرني، وذلك قبل توجههم نحو طويلة".

وكانت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان قد أعلنت في 29 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، في بيان لها أن "مجزرة الإبادة والتطهير الإثني في الفاشر أدت إلى مقتل ألفَين من المدنيين خلال الساعات الأولى لدخول قوات الدعم السريع، وإلى تصفية أبرياء عبر حرقهم أحياءً، فيما يُقدر أن 177 ألف مدني ما زالوا محاصرين، ويُعتقد أن معظمهم تعرضوا لعمليات قتل جماعية، كما حُرق المدنيون الذين خرجوا بسياراتهم أحياءً بداخلها". وكشفت اللجنة في بيانها ذاته عن نزوح ما يُقدر بـ28 ألف شخص خلال 48 ساعة فقط، وسط هجمات على طرق الهروب التي تمنع المدنيين من الوصول إلى مناطق آمنة، حيث وصل ما يفوق الألف شخص إلى مدينة طويلة، وهم يعانون من الإصابات والجوع والعطش.

المساهمون