استمع إلى الملخص
- اختيار السيوطي كنموذج يعكس رؤية السيسي لتجديد الخطاب الديني، لكنه يثير تساؤلات حول مدى توافق هذا النموذج مع تحديات العصر الحالي، مما يفتح النقاش حول تطوير التعليم والخطاب الديني.
- يرى نقاد أن اقتراح استخدام المساجد كمدارس لا يعالج جذور الخلل في النظام التعليمي، ويثير مخاوف من خلط الدين والتعليم، مما يتطلب الفصل بينهما كمشروع معرفي.
خصّص الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في حفل تخرّج الدورة التدريبية الثانية للأئمة بوزارة الأوقاف بالأكاديمية العسكرية، الليلة الماضية، جزءاً واسعاً من كلمته للحديث عن الإمام جلال الدين السيوطي، مجدّداً دعوته إلى استخدام المساجد مراكز تعليمية واجتماعية، في تكرار لخطاب ديني - ثقافي يستحضر الماضي لمحاولة رسم ملامح المستقبل. وتساءل السيسي، في معرض حديثه، عن أسباب عدم استثمار المساجد الكبيرة الموجودة في مصر لتقديم خدمات تعليمية إلى جانب وظيفتها الدينية، مشيراً إلى أن المساجد في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كانت "تُستخدم في كل شؤون الدنيا". واقترح أن تكون بعض المساجد مدارس، قائلاً: "ممكن أعمل الجامع ويبقى جواه المدرسة"، في تلميح إلى إمكانية إعادة تصميم الدور المؤسسي للمسجد ليواكب الاحتياجات المجتمعية المعاصرة.
ولم يكن اختيار السيسي الاستشهاد بالسيوطي عفوياً، فالسيوطي، الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي يُعدّ من علماء الإسلام الموسوعيين، حيث كتب في التفسير والحديث واللغة والتاريخ والفقه، وله نحو 600 مؤلف، أشهرها "الإتقان في علوم القرآن" و"تاريخ الخلفاء". وكان السيوطي نموذجاً للعالم الموسوعي الذي جمع بين التدين والتأريخ واللغة، وهو ما يبدو أن الرئيس أراد استحضاره نموذجاً يليق بالعصر، من وجهة نظره. لكن هذا الاختيار نفسه يكشف، كما يرى مثقفون، عن إشكالية في تصور الدولة عن "التجديد الديني"؛ فبينما يتحدث الرئيس عن التطور وضرورة مجاراة العصر، يعود ليربط المستقبل بنماذج فكرية تعود إلى ما قبل الحداثة، من دون تقديم نموذج عملي لإصلاح ديني أو تعليمي يتجاوز الاجترار الرمزي لتجارب تاريخية.
وكان اللافت أن السيسي حذّر خلال كلمته من "التحدث بخطاب قديم" في مواجهة تطورات العصر، لكنه لم يوضح ما إذا كان استدعاء السيوطي وتوظيف المسجد مؤسسة تعليمية بديلة تجاوزاً لهذا الخطاب القديم أو إعادة إنتاج له بصيغة أخرى. ففي وقت تتحدث فيه الدولة عن تطوير التعليم والمناهج الرقمية والمنافسة العالمية، يجد بعضهم صعوبة في فهم كيف يمكن دمج هذا الطموح مع دعوات إلى إحياء وظائف تقليدية للمسجد تعود إلى زمن ما قبل المدرسة النظامية. وما بدا محاولة لتجديد الخطاب الديني، قد يُقرأ على أنه خطاب ماضوي يتجاوز الدولة الحديثة ومؤسساتها بدلاً من تطويرها.
وقد أشار السيسي أيضاً إلى تراجع اللغة العربية أمام لغات العصر، منتقداً عزوف الأطفال عن التحدث بها، وقال: "ما يتعلم في المدرسة اللغة بس ميبقاش حياته كلها نسيب لغة القرآن يعني". ويعكس هذا الطرح قلقاً مشروعاً على الهوية الثقافية، لكنه في ذات الوقت يتجاهل جذور المشكلة المرتبطة بمستوى التعليم، وغياب سياسات فعالة لصون اللغة العربية من التراجع، داخل المناهج وخارجها.
ولطالما كان تجديد الخطاب الديني محوراً رئيسياً في رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو ما تجلى في خطاباته المتكررة ودعواته المستمرة إلى تطوير الخطاب الديني ليواكب تحديات العصر. وقد شهدت هذه الدعوة خلافات متباينة مع مؤسسة الأزهر الشريف، ممثلة بشيخها الحالي أحمد الطيب، حول آليات التجديد وحدوده.
من الواضح أن السيسي يرى في السيوطي نموذجاً للعالم الموسوعي الذي يجمع بين العلوم الدينية والدنيوية، وهو ما يتماشى مع رؤيته لتطوير التعليم والخطاب الديني. ولكن، هل يتوافق السيسي مع اتجاهات السيوطي في التجديد؟ يمكن القول إن السيوطي، في عصره، كان يمثل نموذجاً للتجديد، المختلف جذرياً عن نظرة السيسي، فقد جمع السيوطي بين مختلف فروع المعرفة، ما يعكس انفتاحاً على العلوم المختلفة، وكان مجتهداً في تفسير النصوص الدينية، ولم يكتف بالتقليد. كذلك ترك السيوطي مئات المؤلفات التي تناولت مختلف القضايا الدينية والعلمية، ما يدل على نشاط فكري كبير. وتتجلى اتجاهات السيوطي لتجديد الخطاب الديني من خلال: التكامل المعرفي: السعي للجمع بين العلوم الدينية والدنيوية. والاجتهاد الواعي: ضرورة الاجتهاد في فهم النصوص الدينية بما يتناسب مع مستجدات العصر. وتفعيل دور المؤسسات التعليمية: استخدام المساجد والمدارس في نشر العلم والمعرفة. وتطوير اللغة العربية: الاهتمام باللغة العربية باعتبارها لغة القرآن والعلم. ويمكن القول إن السيسي يحاول أن يستلهم من السيوطي روح الموسوعية والاجتهاد، لكنه يختلف معه في السياق التاريخي، فهو يواجه تحديات معاصرة تتطلب حلولاً مبتكرة، بينما عاش السيوطي في عصر مختلف. كذلك إن تدخل الدولة في الشأن الديني في عصر السيسي أمر مختلف عن عصر السيوطي.
يبقى السؤال مفتوحاً عن مدى قدرة نموذج السيوطي على تقديم حلول لتحديات العصر الحالي، وما إذا كان استشهاد السيسي به يمثل رؤية متكاملة لتجديد الخطاب الديني، أو مجرد استلهام رمزي لشخصية تاريخية. ويرى نقاد أن الرئيس بدلاً من أن يناقش الأزمة البنيوية في التعليم، من تكدس الفصول، وضعف التدريب، إلى هجرة الكفاءات التعليمية، يقدّم حلولاً رمزية لا تُعالج جذور الخلل. فاقتراح استخدام المساجد كمدارس لا يلغي حاجة الدولة إلى بناء مدارس فعلية، وتأهيل المعلمين، وتطوير البنية التحتية. كذلك إن اختزال العلاقة بين الدين والتعليم بهذا الشكل يعيد إنتاج إشكالية خلط المجالين، ويثير مخاوف من عسكرة المؤسسات التعليمية أو تديينها، في وقت تحتاج فيه الدولة المصرية إلى الفصل الواضح بين الدين مصدر إلهام أخلاقي، والتعليم باعتباره مشروعاً معرفياً مؤسساً على العلوم والمناهج النقدية.
ويرى بعضهم أن خطاب السيسي يعكس رؤية متأرجحة بين الحداثة والتراث، وبين الرغبة في مواكبة العصر والخوف من فقدان الهوية. لكنه في الوقت ذاته يفتح الباب لنقاش جدي حول كيف يمكن للدولة أن تطور تعليمها وخطابها الديني دون أن تقع في فخ التقديس الأجوف للتاريخ، وهل يكفي الاستشهاد بجلال الدين السيوطي لنمضي نحو المستقبل، أم أن المجتمع بحاجة إلى مشروع حقيقي يتجاوز الرموز إلى السياسات؟
وُلد جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في القاهرة عام 849 هـ (1445 م)، ونشأ يتيماً بعد وفاة والده، وهو في الخامسة من عمره. تميّز منذ صغره بذكاء فذ، فحفظ القرآن الكريم قبل بلوغه الثامنة، وتبحّر في سبعة علوم رئيسية: التفسير، الحديث، الفقه، النحو، المعاني، البيان، والبديع، بالإضافة إلى أصول الفقه والجدل والقراءات. ألف السيوطي ما يقرب من 600 مؤلف في مختلف العلوم، من أبرزها "الإتقان في علوم القرآن"، "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"، و"تاريخ الخلفاء". وقد اعتزل الناس في سن الأربعين، متفرغاً للتأليف والعبادة في منزله بروضة المقياس على النيل، حيث توفي عام 911 هـ (1505 م).