استمع إلى الملخص
- ظهرت مبادرات دينية ومجتمعية مثل "لتسكنوا إليها" و"مودة" لتخفيف الأعباء المالية المرتبطة بالزواج، من خلال تبسيط المتطلبات والتوعية.
- يعكس ارتفاع تكاليف الزواج تحولات ثقافية، حيث أصبح تجهيز العروس وسيلة لإثبات القيمة الاجتماعية، مما يتطلب تكامل أدوار الإعلام والتعليم والمؤسسات الدينية لمحاربة ثقافة المظاهر.
بين شقة لم تُؤثث بعد، وحفل زفاف مؤجل، وأحلام معلقة في دفاتر "الجمعيات"، تترنح مشروعات الزواج في مصر بين مطرقة الغلاء وسندان العادات الاجتماعية في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وتضخم غير مسبوق، إذ لم تعد تكاليف الزواج تحتمل، بل باتت "لا يقدر عليها سوى القادرين"، في حين يكافح ملايين الشبان والفتيات للحفاظ على حقهم في تكوين أسرة من دون الوقوع في فخ الديون.
في فبراير/ شباط الماضي، كشف تقرير بعنوان "الحب والزواج غالي الثمن في مصر"، أن كلفة الزواج باتت تصل إلى مليون جنيه على الأقل (الدولار يساوي 50 جنيهاً)، وتشير البيانات الرسمية إلى أن 13 مليون مصري تجاوزوا سن الثلاثين من دون زواج، من بينهم أكثر من 10 ملايين امرأة، في ظاهرة تستدعي الوقوف على أسبابها المتشابكة، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
تحكي منة محمد لـ"العربي الجديد"، تجربتها في تجهيز منزل الزوجية، مؤكدة أن العبء الأكبر هو ارتفاع أسعار الأجهزة الكهربائية، إذ أصرت والدتها على شراء أجهزة عالية الجودة، ولجأت الأسرة إلى الاستدانة، والمشاركة في "جمعيات"، لكن الأسعار كانت ترتفع باستمرار. تقول: "تركز أمي على المظاهر أكثر من التركيز على احتياجاتي، وكانت تخشى من كلام الناس أكثر من خشيتي من الديون. أهل زوجي دعموا فكرة التيسير، ولم يفرضوا طلبات، ما ساعد على إتمام الزواج بأقل خسائر مادية".
بدورها، تتحدث نوران حسن، وهي خريجة هندسة لكنها تعمل مدرسة، عن خطوبتها قبل ثمانية أشهر، وتصف تجهيزات الزواج بأنها "ماراثون استنزاف مالي. والدي اضطر إلى كسر وديعة بنكية، وبيع سيارته لتغطية التكاليف، ثم اضطررنا لتقليص بعض البنود، لكن ضغوط المجتمع لا تسمح بالتبسيط. الناس تربط التيسير بالفقر، لا بالحكمة. يقال إن هناك مبادرات لتقليل تكاليف الزواج، لكني لم أسمع عن أي مبادرة، وكل ما نسمعه مجرد كلام".
يعمل تامر عادل مصمماً للمواقع الإلكترونية في شركة لتنظيم المعارض، ويقول إن خطوبته استمرت عشرة أشهر، وإنه بدأ التجهيز للزواج بعد شراء شقة بمساعدة من والده. يضيف: "الشقة كانت التحدي الأكبر، فالأقساط طويلة الأمد كبيرة، والأسعار تفوق كل التوقعات. اضطررت إلى تقليل الأجهزة الكهربائية والاكتفاء بالأساسيات، واستبدال الماركات الفاخرة ببدائل أرخص، وأجّلت صيانة سيارتي، كما اتفقت مع خطيبتي على إقامة احتفال بسيط. علاقتنا قوية وهذا يمنحنا القدرة على التحمل، لكن المجتمع لا يقبل فكرة التيسير".
من محافظة المنيا (جنوب)، يحكي خالد محمد، والذي يعمل في المبيعات، عن خطوبة امتدت لثلاث سنوات، فشل خلالها في الحصول على شقة، لاستبعاده خيار الإيجار خشية التعرض للطرد لاحقاً، كما أن الارتفاع المتكرر في أسعار الأجهزة والأثاث والمفروشات تسبب في تأجيل الزفاف أكثر من مرة. يقول: "اتفقت مع أسرة خطيبتي على تقاسم التكاليف، لكن إمكانياتهم محدودة، وقررنا إقامة حفل زفاف بسيط لا يتجاوز أهلنا وأصدقاءنا المقربين".
وفي خضم هذه التجارب الفردية، برزت مبادرات دينية ومجتمعية لمحاولة كبح جماح الأزمة. ففي يونيو/ حزيران 2022، أطلق مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف مبادرة بعنوان "لتسكنوا إليها"، تهدف إلى نشر ثقافة تيسير الزواج. مؤكداً أن "التيسير من مقاصد الشريعة"، ما يستلزم تخفيف الأعباء المالية في ظل الأزمة الاقتصادية.
وتنقسم المبادرة التي ينفذها وعاظ وواعظات الأزهر، إلى ثلاث مراحل، هي الخطبة، والإعداد للزواج، والزواج نفسه. وتدعو الأسر إلى التخلي عن التفاخر، أو شراء أجهزة ومستلزمات غير ضرورية، وإلغاء حفلات التصوير، وشهر العسل، وتقليص الضيافات والهدايا.
وشهدت عدد من القرى المصرية مبادرات شعبية مهمة. ففي مارس/ آذار الماضي، أطلق أهالي قرية في محافظة الأقصر (جنوب)، مبادرة لتقليل نفقات الزواج، انتقلت لاحقًا إلى قرى أخرى مجاورة. وفي ورقة بحثية منشورة في مجلة كلية الآداب بجامعة المنصورة (2023)، تناولت الأستاذ المساعد في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، أسماء إحسان، أثر هذه المبادرات، وأشارت إلى مبادرة "مودة" التي أطلقتها وزارة التعليم العالي بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي، معتبرة إياها "نموذجاً ناجحاً لتوعية الشباب الجامعي المقبل على الزواج".
تقول إحسان لـ"العربي الجديد": "كلام الناس أحد أقوى أشكال الضغط الاجتماعي، والبعض يربط قيمة الإنسان بما يملكه أو يظهره، لا بشخصيته أو أخلاقه. التفاخر بحفلات الفنادق أصبح مؤشراً للمكانة الاجتماعية، ما يشجع الأسر على المغالاة في المظاهر من دون وعي بقيمة الزواج كشراكة إنسانية".
وفي قراءته لظاهرة ارتفاع تكاليف الزواج، يعتبر أستاذ علم النفس التربوي، عاصم حجازي، أن "المسألة ليست مجرد أرقام بل تحولات ثقافية. صار تجهيز العروس وسيلة لإثبات القيمة الاجتماعية، لا تلبية للاحتياجات، والمهر لم يعد مرتبطاً بالقدرة، بل بالمقارنة مع الآخرين. الضغوط لا يتحملها الأهل فقط، بل الزوجان أيضاً، وقد تؤدي إلى فشل الزواج قبل إتمامه، أو بعدها بفترة قصيرة بسبب الأعباء المالية".
ويشدد حجازي على ضرورة تكامل أدوار الإعلام، والتعليم، والمؤسسات الدينية لمحاربة ثقافة المظاهر. مؤكداً أن الحل في العودة إلى القيم الأساسية التي تجعل من الزواج مودة ورحمة، لا استعراضاً اجتماعياً.
وتؤكد الإحصاءات الرسمية أن الأزمة تتفاقم، إذ تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) إلى 25 مليون شاب وفتاة في مصر تجاوزوا سن الزواج من دون ارتباط، كما جرى توثيق أكثر من 112 ألف حالة زواج عرفي حلّاً بديلاً للزواج التقليدي في ظل تعقيدات التكاليف.