التهاب الكبد الوبائي... جهود طبية لدحر الفيروس "سي" في كراتشي

التهاب الكبد الوبائي... جهود طبية لدحر الفيروس "سي" في كراتشي

12 يناير 2021
تعمل العيادة على التوعية بالإضافة إلى العلاج والوقاية (أطباء بلا حدود)
+ الخط -

عيادة "أطباء بلا حدود" في كراتشي الباكستانية تمثل نموذجاً رائداً للعمل الإنساني. تضيء "العربي الجديد" بالتعاون مع المنظمة، في هذا التحقيق، على عملها في مكافحة التهاب الكبد الوبائي هناك

كراتشي، عاصمة إقليم السند، وأكبر مدينة في باكستان، في عدد السكان، بثمانية عشر مليون نسمة، تقع على ساحل بحر العرب، وهي موطن لأكبر الموانئ الرئيسية في البلاد، كذلك فإنّها العاصمة الاقتصادية والمالية لباكستان، لكنّ كلّ ذلك لا يعني أنّ المدينة لا تعاني من الفقر الحاد.

صحة
التحديثات الحية

أحياء كراتشي الفقيرة بيئة جيدة لعمل منظمة "أطباء بلا حدود" الإنساني، الذي يستهدف مساعدة الفقراء في أماكن يصعب الوصول إليها عادة. تنشط في الوقت الراهن بعثة للمنظمة هدفها مكافحة التهاب الكبد الوبائي، من أعضائها الطبيب المصري أحمد عبد المعطي، الذي يقول إنّ مهمته الأساسية جعل الصحة أولوية لدى الإنسان والمجتمعات التي تعمل في نطاقها المنظمة "أطباء بلا حدود". عبد المعطي طبيب أسنان، حاصل أيضاً على ماجستير في الصحة العامة، وقد وصل إلى باكستان في أوائل أغسطس/ آب الماضي، وبدأ مهامه في محاربة الفيروس المنسيّ حالياً، في زمن كورونا. فهدف المهمة في منطقة ماتشاركولوني، تحديداً في كراتشي، القضاء على فيروس "سي" المعروف بالتهاب الكبد الوبائي، مع الإشارة إلى أنّ باكستان موطن أعلى معدل في العالم لحاملي فيروس "سي". وبينما يمكن فيروس "بي" التسبب بالتهاب الكبد الوبائي، فإنّ له لقاحاً، وهو ما يفتقده فيروس "سي". لكنّ لفيروس "سي" علاجاً تعمل المنظمة على توفيره مجاناً، لجميع الأشخاص الذين يحملون الفيروس الذي يؤثر مباشرة في الكبد.

الصورة
أطباء بلا حدود في كراتشي- أطباء بلا حدود

ينتقل الفيروس بطرق عدة. فهو ينتقل أولاً من طريق الدم، وتحديداً عبر عمليات نقل الدم غير الآمنة، أو في الأماكن التي لا توجد فيها معايير الأمان، وهي من أكثر أسباب انتشار المرض. ثانياً، عبر العيادات غير المرخصة التي تمارس نوعاً من أنواع الاستشفاء، عبر من يطلقون على أنفسهم تسميات كالطبّ الشعبي، فهؤلاء يستخدمون أدوات طبية أكثر من مرة لعدة أشخاص من دون تغييرها. أما السبب الثالث، فيعود لمشاركة الإبر الطبية في نشاطات، كتعاطي المخدرات. هناك أيضاً أسباب أخرى لانتقال الفيروس، مرتبطة بشكل الحياة اليومية للناس، مثل نقل الدم الملوث من شخص مصاب إلى شخص غير مصاب. في ماتشاركولوني بالذات، احتمال من هذا النوع الأخير، ففي صالونات الحلاقة الرجالية، لا تُبدل الأمواس بعد استخدامها بين زبون وآخر، ما قد يعرّض الحياة للخطر، بسبب عدم امتلاك الحلاقين أو السكان عموماً الوعي الكافي للوقاية من الفيروس.
هذا المكان كما يصفه عبد المعطي، منطقة عشوائية، باكتظاظ بشري هائل، ودراجات نارية، وسيارات نقل. هي ماتشاركولوني، الحائر اسمها بين "الناموس" في الأوردية، و"الصيادين" في البنغالية، بينما يوحي الطريق الرئيس، وهو عبارة عن قناة لتصريف المياه الآتية من البحر، بمياهها السوداء الراكدة المليئة بالنفايات، أنّ الاسم الأوردي أقرب إلى الواقع، على الأقل في الوقت الراهن: "مستعمرة الذباب". تجهيزات البنى التحتية من مشاكل المنطقة الأبرز، إذ لا تمديدات عامة لمياه الصرف الصحي، بل إنّ لكلّ منزل حفرة خاصة به، كذلك فإنّ هناك نقصاً مخيفاً في المياه العذبة، إذ لا تصل إلى المنازل غالباً، عدا عن اهتراء المواسير تماماً، فتختلط المياه النظيفة بالمياه الآسنة، مع ما في ذلك من أمراض كثيرة يمكن أن يسببها هذا الإهمال. ومثل هذه البيئة لا تتيح بأيّ شكل لمن يعيشون فيها الاهتمام بصحتهم، فضلاً عن عدم جدوى التوعية الصحية، وحتى إن مرضوا بمرض خطير جداً كالتهاب الكبد الوبائي، لن يعرفوا، إذ لا سبل لديهم لإجراء التحاليل الطبية اللازمة.

المرأة
التحديثات الحية

لكنّ جزءاً من عمل المنظمة يقوم على محاولة خلق واقع جديد مهما كان المكان سيئاً. فعيادة "أطباء بلا حدود" تقع في واحد من أفقر الأحياء على الإطلاق في باكستان، وفي بيئة لا تتوافر فيها أبسط الموارد. العيادة عبارة عن ثلاثة طوابق؛ الأرضي قسم الأطباء والكشف عن المرضى، والأول مختبر متخصص في تحاليل الفيروس "سي" يضمّ جهازاً متطوراً. ويضم الطابق الثاني مكاتب خاصة بالموظفين والأطباء. في المبنى عيادات خاصة، وغرف مخصصة للدعم النفسي، وخدمة عالية الجودة للمرضى.
في هذا المركز المتطور والمجهز بالكوادر الطبية والتمريضية والمساعدة، يمكن أيّ شخص يعاني من العوارض، وأبرزها اصفرار لون البشرة، أن يجري التحليل اللازم لكشف الفيروس، فإذا تبينت الإصابة، يجرى فحص حمل الفيروس (بي سي آر) وعندها إذا تأكدت الإصابة، يُعالَج المريض مباشرة، خصوصاً أنّ اكتشاف المرض بالنسبة إلى السكان في هذه المنطقة، لا يعني العلاج عادة، إذ لا يملكون ثمن علاج أيّ مرض بسبب سوء أحوالهم المالية.

الصورة
أطباء بلا حدود في كراتشي- أطباء بلا حدود

من جهته، يتولى عبد المعطي منصب مدير تعزيز الصحة، ويعمل مع فريق باكستاني من المجتمع المحلي. عمله المباشر مع مشرف الصحة الذي يدير الفريق المؤلف من 7 مثقِّفين صحيين؛ ثلاثة رجال وأربع نساء، وهو الفريق الميداني التابع للمنظمة في المنطقة، الذي يستخدم عربات الـ"توك توك" في تنقلاته، ويحاول توعية المجتمع على أساليب انتقال الفيروس، وانتشار المرض ومداه، وسبل الوقاية، كذلك يمتد العمل لرصد حاملي الفيروس، وكيفية العلاج، مع إعادة المسح كلّ فترة للاطلاع على تطور أعداد المصابين. يقول: "نحن فعلياً، نعمل على الوقاية وسط عامة الشعب، ولدينا استراتيجية ثانية هي العمل مع الفئات الخاصة، مثل: الحلاقين، والممارسين المحليين (متخصصو الطبّ الشعبي) وصالونات التجميل، وعمال المصانع، ومع جميع الأشخاص الذين يستخدمون أدوات يمكن استخدامها بين شخص وآخر، ما يسمح بنقل المرض". وبما أنّ هذه المستعمرة تقع على البحر، يتعامل الفريق الذي يرأسه عبد المعطي مع الصيادين أيضاً، "إذ إنّ العمال والعاملات عندما يصطادون الأسماك يخزنونها في مخازن خاصة، وهناك سيدات من الجالية البنغلادشية يذهبن يومياً إلى المكان ليقشرن الأسماك بأيديهن لتصبح جاهزة للتجميد ثم التخزين والتصدير، وخلال عملية التنظيف يستعملن أدوات حادة مثل الأمواس والسكاكين، وفي كثير من الأحيان يجرحن أيديهن، ما يساعد في نقل المرض أيضاً". ويعمل الفريق، عدا عن التوعية، في تعقيم كلّ الأدوات التي تستخدم في هذه النشاطات، والتشديد على أنّ المطلوب من كلّ شخص أن يستخدم أدواته الخاصة به، لمنع أيّ عدوى جديدة. وهكذا يشكل هذا الفريق الجسر الرابط بين المجتمع المحلي والفريق الطبي.
ولا تكتفي العيادة بمركزها الثابت وفريقها التوعوي الميداني، بل تملك تجربة "العيادة المتحركة" أيضاً، وفي إطارها تؤخذ المعدات لمدة يوم واحد إلى الميدان، للكشف على المرضى المحتملين، وتعريف السكان بعمل "أطباء بلا حدود" في المنطقة، كما تعزيز نشر الثقافة الصحية.

تشير منظمة الصحة العالمية إلى أنّ هناك ما يقدَّر بنحو 325 مليون شخص في جميع أنحاء العالم يعانون من فيروس التهاب الكبد "بي" أو فيروس التهاب الكبد "سي". الغالبية العظمى من هؤلاء الناس يعجزون عن الوصول إلى الاختبارات والعلاج المنقذ للحياة. وقد أدى التهاب الكبد الوبائي إلى نحو 1.34 مليون حالة وفاة عام 2015، وهو عدد مماثل للوفيات الناجمة عن السلّ. ويصل إجمالي عدد من يتعايشون مع التهاب الكبد الوبائي "سي" حول العالم إلى 71 مليون شخص.

الصورة
أطباء بلا حدود في كراتشي- أطباء بلا حدود

وتجدر الإشارة إلى أنّ أحد أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، القضاء على فيروس "سي". ومن جهتها، حددت منظمة "أطباء بلا حدود" عام 2023، للقضاء على الفيروس كلياً في ماتشاركولوني. على الرغم من ذلك، بات الوضع أكثر تعقيداً حول العالم، وفي ماتشاركولوني، مع انتشار فيروس كورونا الجديد، واللجوء إلى الإقفال العام الذي عملت خلاله فرق المنظمة يومين فقط في الأسبوع، في المنطقة، علماً أنّ عدد إصابات كورونا في ماتشاركولوني غير معروف بعد، خصوصاً أنّ المجتمع المحلي لا يؤمن أساساً بوجود كورونا، بل يعتبره نوعاً من أنواع الخيال العلمي، فالسكان يعتقدون أنّ الفيروس لا يصيبهم بل يصيب الأجانب فقط. في هذا الوضع المتأزم، باتت فرق بعثة "أطباء بلا حدود" في ماتشاركولوني، تعمل خارج نطاق اختصاصها، وهو فيروس "سي"، على جبهة فيروس كورونا أيضاً، وما في ذلك من محاولات وقاية وتحذير وتثقيف للمجتمع المحلي.

المساهمون